عشرون يوما من التدوين| 07: هايكو Haiku (ترجمات)

كنت أقرأ اليوم في الهايكو، وهو جنس أدبي أبتكره الأدب الياباني وصدّره بشروطه للأدب العالمي، عبارة عن لوحات مصوّرة تنقل مشاهد غالبا ما تكون مجتزأة وتتناول فصلا من الفصول الأربعة، تتكون كل لوحة من ثلاثة أسطر، السطر الأول من خمس مقاطع صوتية، الثاني سبعة مقاطع صوتية، الثالث خمس مقاطع، في النسخة الانجليزية تتحلل بعض هذه الشروط لكن عموما يحافظ على بساطة التركيب … هذه ترجمة لبعض من قطع الهايكو عن الانجليزية، ترجمة أدبيّة، خيانةً للنصّ وغوايةً للمعنى:

  • لـ بَاتْشُو ، مَاتْسُو ( 1644 – 1694 ) المولود لأبٍ من السامورايّ، أحب باتشو الترحال للغاية ونثر قصائده أثناء رحلاته، نسج قطع الهايكو هذه على فراش موته:

1.
طَريحا في آخر الرِّحلة
وفي الأحلامِ، أعدو بوحشيّة
على أرضٍ ذاوية!

Fallen sick on a journey
In dreams I run wildly
Over a withered moor

2.
أوّل ذرة ثلجٍ ناعمة
كافيةٌ لتثني
أوراقَ النِّسرين، أسفلاً!

The first soft snow
Enough to bend the leave
Of the jonquil low

3.
في صَرخةِ سيكادا*
لا علامةَ تُنبئكَ
كم كانَ قريبا موتُه

In the cicada’s cry
No sign can foretell
How soon it must die

 *حشرة مشهورة بصوت طنينها، لذلك لا تفرّق بين طنينها للتألم وطنينها الاعتيادي.

4.
ألنْ تأتيَ لتَرى
هذه الوحِدة؟
إنما هي ورقة واحدة من شجرة كيري* 05-10-princess-tree

Won’t you come and see
loneliness? Just one leaf
from the kiri tree

*شجرة جميلة تُعرف بأنها من أسرع الأشجار نموا

Continue reading

عشرون يوما من التدوين| 05: “كلّ الورى سمعوه…”

هذه تدوينة اليوم الخامس، أردت كتابتها البارحة لكن السيرفر لم يعمل وقت الكتابة :

Screen Shot 2015-11-05 at 22.38.36

كنت أريد تجاوزها لكن الـ OCD المزعج لم يكن ليسمح لي أن أرى رقما ناقصا كنت قد التزمتُ به ( أهلاً بك ، تعرّف على منال التي لا تفوّت موعدا )  على أية حال، كنت مستغرقة بالكامل في الليلة الماضية بقصيدة الرائع عبد اللطيف بن يوسف، أصدقائي من حولي يقولون أنني أزعجتهم بها، لا أمانع ذلك، هذا نوع من القصائد – إن كنتَ مهتما بالأدب- فلا تسامح نفسك لأنك لم تحفظها أو تحفظ منها، شخصيا أحبّ القوافي المنتهية بكاف الخطاب، تنقل الموقف من شكوى هائمة إلى مواجَهة محتدمة، بكل النديّة الممكنة… بكلّ الخضوع الممكن! هذه القصيدة لعبتها الأقوى كانت في المناورة بالضمائر… في حين يحضر الحبيب مُخاطَبا.. يختبئ المحب/الشاعر مرات في ضمير الغائب .. ذلك من شأنه أن يقلّب مشاعرك ويلفحها .. على الوجهين!

“قلبي تبعثر كالنجومِ ليجمعك
بان الخليطُ وأنت تسكنُ مضجعك

طيرٌ أنا سقطت سمائي كلها
لا شئ من هذا بنومك أفزعك ؟!!

هو ودَّعك وبكاكَ بحراً هائجاً
يامن نجوت ببحره إذ ودّعك

واستشفعك ورجا بأعلى صوته
كلُّ الورى سمعوه لما استشفعك

واستودعك وحرقتَ كلَّ متاعه
يا للخيانة منك حين استودعك!

قد كنتَ كالسُّياح تعشقُ عابثاً
ليلاً وتنسى في الصباح مولّعَك

لن أتبعك.. لكن سرجتُ من العنا
خيلاً تسابق خطوها كي تتبعك

ورميت صوتي في الدروب منادياً
يا أيها الباكي أتخفي أدمعك؟؟

وطعنت في شرعية الشوق القديم
فكيف شوقك حاضرٌ ، من شرّعك؟!

…. “

عشرون يوما من التدوين| 04: رسالةٌ مُعلنة

رسالة مُعلنة إلى رفيقي في أسبوعه الثالث من الصَّمت المريب:

“كصديقين يشتركان في تفضيل الصمت في حياتهما اليوميّة، فالكلام ليس وسيلة اطمئنان، وسؤالاتنا عن الحال تعني أننا نطلب حكاية من طرف اليوم في حدود ثلاثة أسطر، مُديركَ الغبي أو زميلتي الغبيّة، يعني مساحة لشتم الأعداء المشتركين، ثم نعود إلى حمى صمتنا آمنين وأنا أعرف أنك بخير.

تعرف، وأعرف .. أن الإجابات المعلبة هي صمت آخر، عندما يسألك غريب: كيف الحال؟ وتجيبه: بخير، فأنت في حقيقة الأمر تمارس صمتا مقنّعا، أنت تمنحنه ردّا لا إجابة، الرد غير الإجابة، صحيح؟ كأنك تُنهي جملته فحسب، دون أن تبدأ جملتكَ، تقضي على فرصة استحضار حكاية سخيفة، الحمدُ لله يا صاحبي أن النّاس متواطئون على هذه المناورة، الجميع يبدون سعداء بذلك.

عندما يسألك رفيقكَ سؤالا ساذجا كأن يسألك إن كنتَ تريد قهوة بينما هو أساسا يناولك كوبك، فهو يبسط إليك طريقا إلى مزاجه، إلى جناحيَِ روحه، وإلى دماغه العليلة ويريدك أن تتهادى إلى كل ذلك كصاحب مَنزل، من المربكِ أن تقاطع نصّه الموغِل في توقعاته وتقول: “لا أريد قهوة اليوم…” لا أعرف هل تفهمني الآن؟ الصّمت المريب بين الأصدقاء يشبه وقع خطوات الغرباء في المحطّة، خطوات مُربكة لكن صارمة تُريد وِجهة غير متقاطعة مع أحد، يشبه وجوه أولئك الذي يرتدون نظارات شمسيّة حتى قبل الغروب بقليل.

الصّداقة بالمحصّلة هي مسألة توقيت، هل تصدق أنني أسهّل الأمر إلى هذا الحد الممتنع؟ مسألة توقيت، تعرف الوقت الذي تقبض فيه على صديقك، الوقت الذي تطلقه فيه دون أيّة تدخلات وتلمحه من أبعد نقطة ممكنة، الوقت الذي تصغي إليه، الوقت الذي تتركه مستغرقا في صمته، والوقت الذي تدفعه لأن يمنحك إجابة لا ردا، الأسبوع الثالث … كمثل هذا اليوم هو وقت لا أعرف حقيقة ماذا أفعل فيه، غير ممارسة أكثر شيء أجيده مع أصدقائي… أن أَقلق”

مرحبا! أنا تائه مثلك.

… يحدث لي هذا أيضًا، الوقوع في دوائر تيه مباغتة، في البدء أحاول البحث عن أقرب مخرج وعندما لا أجد، أبحث عن أيّة لوحة، ثم عن أيّ تائه آخر يقاطعني المسافة، لا ظِلال ولا حتى صدى، في الأخير على أهبّة اليأس، سيبدو أيَّ شيء يلوح كما لو أنه علامة نجاة فسفورية عليّ أن أثق بها لأنني لا أملك خيارا آخرا، وعندما أثق ثقةَ الغلبان! تختفي تاركة وراءها علامةَ لغزٍ آخر مُربك أكثر من كونه مثير.

يحدث لي هذا أيضًا يا صديقتي، أن أرى الطريق طريقي بعينيَّ وبقلبي.. لكنّ أقدامي تنكره وخطواتي تتمرّد عليه، لاأفهم شيئا مثلما أنتِ لا تفهمين شيئا الآن وتعتقدين أنني علامة النجاة الفسفورية، تثقين بي فأمنحكِ هذا اللغز المُربك، أنا آسفة.

يحدث لي أيضا أن أُذهل كيف أمكن لكل تلك الخطوات الراسخات أن تتغرّب، أن تضلّ، أن تنطوي في حين يفرد الطريق… ذات الطريق كلّ اتجاهاته، أبحث في وجوه أصدقائي عن عنوانٍ فرعي يمكنني من خلاله إلهام نصّي المسترسل في الدوران، أو عن نقطة يمكنني سحبها لإنهاء النصّ، أو لإلهاء المخيّلة، لكنهم يبدون حينها كما يبدون كلّ يوم، متململين أو واعدين، أرى وجوههم بعينيَّ وبقلبي وملامحي تنكرههم، يحدث لي أيضا أن أضلّ في الطريق، أن أظلّ في وجوه رفاقي، يا ليلى.

يحدث لي أفتح دفتر المهام، دون أن أستوعب نفسي في اللحظة التي ملأت فيها الدفتر أسطرا مرقّمة، مَن هذا الذي كتب هنا؟ من هذا الذي يهتم كثيرا؟ من هذا الذي يرى ما يريد بقوة رؤيته لما لا يريد؟ ما كل هذا الوضوح المُريب الواقف في وجه هذا التوهان المتنمّر؟ فأُحيل تلك المهام إلى مصطبة الضمير المزعج، لتستريح هناك كصبّارة معتادة على فوات السُّقيا.

يحدث لي يا صديقتي أن أتوقف تماما عن محاولة الفهم، فكل محاولة تستولد المزيد من الأسئلة، لطالما أحببت الأسئلة التي تمنحني احتمالاتها احتمالات عدة للتبرير، غير أن أسئلة التيه كأذرع أخطبوط غادر، شرسة، مغروسة في رأس جواب واحد ورديفه: لستُ أدري… لستُ أدري!

دعيني أخبرك أن ما يحدث لكِ، يحدث لي، ويحدث لرفاقنا المتململين ورفاقنا الواعدين على حدّ سواء، كما ترين أنا لا أملك خارطة طريق، لكنني أؤكد لك أنني ذلك التائه الذي يقاطعك المسافة لكنك ولسوء الحظ – مثلي- لن ترينه، لا ظِلاله ولا حتى صداه، إنها إحدى تغلّبات الوجود علينا، إحدى شهواته في استصغارنا كلما تعاظمنا في حيّزنا الوجودي الضئيل، كلما أصبحنا مهووسين بالانتصار والمرح استفززنا تنمّرات الوجود التي يعادل بها هوسنا بهزيمة تيه وتعاسة علامة نجاة موهومة. استرخي يا صديقتي، توقفي عن البحث عن حلول، استرخي تماما، شاهدي ست ساعات متتالية من أفلامك المؤجلة، اهربي إلى عاداتكِ الغذائية السيئة التي تركتيها بجهد، اشربي الكولا وكُلي بطاطس مقليّة في منتصف الليل، استرخي تماما، حادثي رفاقك أحاديث غير مترابطة، تناغمي مع التيه، اسمحي له أن يكسب الجولة، تناولي هذه الجرعة المُرّة من الهزيمة! اهدري الوقت بكل الحماقة التي تحوزينها منذ مراهقتك، دعي الصبّارة هناك دون قلق، سيحدث ودون سابق تنبيه أيضا أن تتوقف شراهة الوجود الغامضة، ورغم أنني أعرف – كما تعرفين- أنها ستعود، لكنّ الحماسة الوليدة لخطواتنا ووجوه رفاقنا ودفتر المهام ستنُسينا قلق الترقّب، ستجعلنا نُنكر أننا نُهزم، من جديد!

اثنا عشر لونا

تطوي ثمان كنزات صوفية بشكل متتابع وآلي: الكُمّان للخلف، طيّة المنتصف، تهذيب الياقة، وتفكّر باستغراق موازٍ: حبيبان للخلف، طيّة منتصف الطريق، تهذيب ياقة النهايةالتي بعدها: مُقابلتا عمل، طيّة منتصف الدوام، تهذيب نهاية اليوم، وهكذا كآلة كادحة لا تحب أن تتوقف.
كنتُ أسترخي على صوفا ليّنة وأتأمل صديقتي في انغماسها مع الكنزات، إنني أملك كامل الحق في تخيّل الأفكار التي تدور برأسها، أنابعبارة أخرىأحب استعارة رأس صديقتي هذه تحديدا في تعليق الأفكار التي لا يرحّب بها عقلي، وأعرف أنها لا تمانع، في إحدى المرات اندفعت وبدأت أجادلها في فكرة علّقتُها داخل رأسها، كنت أعارضها، وأخذتني على قد عقليواستمرت في مجادلتي حتى اتّهمتها أخيرا: مخّك تعبان! فقالت لي بهدوء: طيّب، سأصلح الأمر.
كنتُ أحتاجها أن تطوي كنزة تاسعة، لأن الأفكار استمرت في استرسالها وسيقلقني انقطاعها، كنت تحت رحمتها، وكنوع من انقاذ الموقف، رميتُ نحوها فوطة صوفية لتقوم تلقائيا بتوضيبها، لكنّها قالت: لا، يكفي انشغال، علينا أن نجلس معًا الآن، هزمتني ابتسامتها فلم أشأ أن أخبرها أنني كنتُ بالفعل جالسةً معها وأن مخّها التعبان مسترسل الأفكار التي – وياللورطة!- سيكون عليّ أن أساعدها في التخلص منها.


– أخبارك؟
– عندكِ أوّل بأول.
– لا بأس احكيها مرة أخرى.


يعتقد كثيرون أن الفتيات يجتمعن للحديث عن الموضة وعن الرجال الوسيمين، ونحن نفعل ذلك بالفعل، لكنه ليس كل شيء، في بعض الأوقات لا نجد ما نتحدث عنها سوى أن نعيد جرد أحاديث سابقة مع إضافة بعض التعليقات الجديدة، وهذا لا يقل متعة عن خبر جديد وحصري، نحن نستمتع بكوننا نتحدث مع من نحب وليس بالموضوع الذي نتحدث فيه، صديقتي وأنا – على الأقلنُعرف بصمتنا الطويل في خارج هذه الثلاث ساعات التي نتقابل فيها كل أسبوع، لذلك أشعر أنني على موعد مع حفلة حديث

– تم قبولي في الوظيفة..
– ممتاز!
– لا مش ممتاز! كنت أريدها بشدّة قبل أربع سنوات لكنها تأخرت، وحضرت باهتة.
– “ادّيها ألوان يا بنت!”
– أقضي حياتي تلوين؟ لا، المهم رفضتها.
– الليلة الماضية لم ينتهِ تحميل الفيلم إلا قبل دقائق من موعد دوامي، رغم أني كنت جاهزة طوال الليل لمشاهدته، المهم رفضت مشاهدته.
– نفس الشيء! في غمرة تحاشينا أن نفقد ما نريد، ننسى مناورة التوقيت، ننسى أن قضيتنا هي أن نحصل على ما نريد في الوقت الذي نريد، وليس أن نحصل عليه بأيّة حال!
– خيرة؟
– أنا لا أؤمن بالخيرة.
– ولا أنا.
– التوقيت الصحيح هو الخيرة.

ناولتني قطعة كوكيز كتأييد غير واعٍ ثم تابعت بحماس:

– اكتمال الفيلم قبل دقائق من بدء الدوام، سفرك لمدينة حافلة بعد انتهاء الكرنفال،  الردّ على رسالة دفنها اليأس، انتباهك لكأس الشّاي بعد أن يعود ثقيلا وباردا، دخول..
– دخولك مدينة الألعاب في الخامسة والثلاثين، شراء فستان في تصفية التخفيضات.
– يعتبرونها ديلبالمناسبة!
– نفسهم الذين تفوتهم مناورة الوقت، لا تعني لهم المواسم شيئا فضلا عن فكرة أريده الآن وبأيّ ثمنكنت أريد تلك الوظيفة وبأي ثمن، كانت لدي رغبة مجنونة في المكتب المطل على الشارع العام، عرضوا عليّ نفس المكتب بالمناسبة.

أخدتْ جوّالها بابتسامتها المنتصرة ذاتها وأردفت: أرسلتُ لك رابط حسابه.. تابعيه، ثم انغمست في شاشة الجوّال، تكتب وتبتسم وتكتب وتبتسم عدّتُ إلى استرخائي، وبدت لي كآلة كادحة مرة أخرى، تأملتها من جديد، بدأتُ استعارة رأسها، أردت تعليق الفكرة التاسعة التي أقلقتني، لكنني وجدتها باهتة.

إلى: لئيمة…

تبادلاتا حديثا مقتضبا كان يفترض أن يكون وفق سيناريو مفصّل لكن كانت جدية الحديث تفوق عفوية المكان الذي جلستا فيه، على درج مبنى شركتهما ..بدتا كمراهقتين تحاولان تسوية الأمور بارتجال ما أمكن على درج المدرسة، انتهى الحديث كما ينبغي:

  • عندما أعود إلى البيت غدا سأتصل بك، أفضل؟
  • أفضل.

بالفعل جرى الوعد كما هو مفترض، حيث لم تتمكنا من الارتجال مجددا والثرثرة عبر اتصال، عادتا إلى الكلاسيكية المنتظمة، ما كان لها سوى أن تكتب:

تذكرين أنكِ سألتِني بالأمس: تعتقدين أنني مجنونة؟ وضحكنا على مجرد طرح السؤال، رغم أننا نعرف أن الإجابة هي: بالطبع! وأنا أيضا!

كلنا يا صديقتي يقف في لحظة أو تُوقفه تلك الحظة لتشعره على نحو أكيد وصارم أنه لم يعد مناسبا للسياق، أن الأمور تجري معه وفيه على نحو لا يبدو منطقيا، ولأننا نملك إحساسا مضمورا بالانكسار أمام الحياة فنحن نذهب تلقائيا نحو التصديق بأننا بدأنا نفقد عقولنا، ذكاءنا، حِسّنا الفُكاهي..أي شيء، المهم أننا نضع تفسيرا يحفظ لنا كرامتنا أمام هزيمة تلوح بحيث تبدو أنها قد حدثت بطبيعة الحال!؛ فكيف لك أن تلوم مجنونا كان لا بد أن ينهزم؟ نحن نعرف أن هذا السيناريو أجمل بكثير من أن نعترف أننا هُزمنا بكامل قوانا العقليّة، بكامل ذكائنا، بكامل حسّنا الفكاهي.

بدلاً عن ذلك، أخبرتكِ أنه هو المجنون، وكأن ذلك سيحدث أيّ فارق، لكنني – وبطبيعة الحال أيضا!- أحب أن أشتم من يُغضب رفاقي، بدون مناسبة، تعرفين أن الأمر منتهِ بينكما مسبقا وأنكِ لم تكوني تستشيرينني بقدر ما أردتِ مني أن أتآمر معكِ في خلق الصياغة النهائية لما حدث بينكما، تلك الصياغة التي ستكون الختم الشمعيّ للحكاية قبل إقحامها في ذاكرتكِ، تعرفين أنني أُحسن ذلك، إلى درجة أنني أكتب إليك الآن.

دعيني أخبرك، لقد أحببتُ رجالا سيئين، سيئين للغاية، وكانوا أغبياء بما يكفي لأن أتمكن من رؤية نهايتي معهم منذ البداية، لكنني وعلى الرغم من تلك الرؤية، كنت أستمر، بل كنت أقع في غرام تلك الرؤية حرفيا، كان وجود النهاية يحفّزني على الاستمرار، كان حضور النهاية وعلى نحو غريب..يطمئنني، إنني ممتنة لهم على منحي ذلك الأمان القطعي. وعندما تحضر النهاية كان العذر جاهزا، ومغلّفا كهدية عيد ميلاد مكشوفة بطاقتها: “لقد انتهينا لأنكم بذلك السوء!” لطالما أخبرني أصدقائي أنني أبدو أجمل وأكثر حيوية بعد كل انفصال، وكنت أعرف أن ذلك يحدث بالضبط لأنني أحب إنهاء ما أقوم به، أحب أن أنجز المهام وأنشئ قائمة مهام جديدة. هذا جنون، وهذا لؤم أيضا، أعترف. لكنكِ لئيمة كذلك، وتفهمين أن مسرحية الانفصال التراجيدية هذه ستنتهي بكِ وأنتِ تبدين أجمل، وأكثر حيوية. دعينا نتفق مبدئيا على وصف الجنون المجازي لما نقوم به، إننا نزهد فيمن يرغبوننا بشكل جديّ وقطعي لأن رائحة الأبديّة تفوح منهم، تلك الرائحة التي تشبه الموت، تشبه الأبيات الشعرية اليائسة على شواهد القبور، تشبه حسابات الأدعية الوقفيّة، تشبه القيود الأبدية وفرقعة زرد السلاسل. إن كلمة الأبدية لا يمكن أن تثير في خيالاتنا صورة حدائق ونوتة هدير، أو أراجيح صدئة وأطفالا يضحكون، إنها لا تنسجم مع خبراتنا كأحياء لا يعرفون شيئا أبديا وصارما غير الموت، غير السلاسل، ما إن يشعرنا أحدهم أنه مستعد لاختراع أبديّة معنا، شعورا أبديا بالحبّ، أو فعلا أبديا بالعطاء والحماية، حتى تبدأ مفاهيم الحياة في ذاكرتنا بالدفاع عن نفسها، تصدر بيانها الصارم في كلمة واحدة: لا. إننا ندافع في مقابل هجمومهم الورديّ الأبدي عن كوننا أحياء، عن كوننا أحرار، عن كوننا قابلين للتغيّر والتحوّل والانتهاء، إننا ندافع عن رغبتنا المُلحّة في بدء قائمة مهام جديدة، في اكتشاف أشخاص جدد، في أن نكون متطرّفين في الصدق مع أنفسنا وصولا إلى أن يبدو كل ما سوى إحساسنا الجنونيّ بالتحرر هامشيا، إننا نختار أشخاصا سيئين للحبّ حتى لا نفرط في الإحساس بالذنب عند إعادتهم للهامش أو ما بعده. دعيني أطمئنك من هذه الناحية، من ناحية أننا لسنا أغبياء إلى درجة أننا لا نعرف ما نختار، ندّعي ذلك أحيانا، لكنه ليس الحقيقة، إن معرفتنا تلتف علينا في أحيان كثيرة، لكننا نعرف.

يوما ما لن نتمكّن – أنتِ وأنامن لمّ الأمور على هذا النحو الصريح، ستسألين غيري، وعلى الأرجح سيفتح لكِ موالا عن الإحساس بالأمان، عن تجاربك المبكرة مع والديكِ، عن ذلك النموذج الذي سيسمّه الفطرة، ماذا أيضا..؟ عن مثلث الاحتياجات، عن سلّم الضروريات، عن أشياء كثيرة يا صديقتي يحاول بها أن يفسّر لك شعور الانعزال عن السياق، سيسمّي ذلك اللؤم اللذيذ بسوء إدارة الأزمات، سيسمّي أحبائكِ السيئين بأخطاء في الاختيار، ويسمّي ذلك المثقل بالأبدية الشخص المنشودسيبدو كل ذلك صحيحا وعقلانيا، ستشعرين لبعض الوقت بما يسمّونه سلاما داخليا، سأؤيدكِ لأنك ستحتاجين ذلك، ولكن أريدكِ أن تعدينني أنكِ ستظلين مؤمنة بأن كل ذلك مجرد لعبة مرحليّة، وأنكِ في نهاية المطاف مجنونة.

ناداك مدُّ الليلِ
وجَزرُ الفجرِ رابكْ
فاقرعْ كؤوسَ النّوى العتيقِ
وافتح للهوى ..بابك!

نادِ بحرَ حُلمك غامرا..
أو فيه غُص
واضرب موج التمنّي
ينفلق من عُمق يأسكْ
وقُل للحُلم المُرِّ:
مُرْ..!

متحملا لَهفَ السنين
متضلّعا خطب الحنين
يمرّ..
مُمايلا -طربا- يغنّي
نغمًا …
يَجنّ

أداري لوعتي بالمُنى …!

لَيْسَ الصَّديقُ الذِي تَعْلُو مَنَاسبُهُ

بلِ الصديقُ الذي تزكو شمائلهُ

إنْ رابكَ الدهرُ لمْ تفشلْ عزائمهُ

أَوْ نَابَكَ الْهَمُّ لَمْ تَفْتُرْ وَسائِلُهُ

يَرْعَاكَ فِي حَالَتَيْ بُعْدٍ وَمَقْرَبَة ٍ

وَ لاَ تغبكَ منْ خيرٍ فواضلهُ

الرجل الذي جمع بين شجاعة الفروسية والجهاد ورهافة الحسّ ورقيق الغزل ، (فارس السيف والقلم) لقبه الذي يستحق أكثر منه … محمود سامي البارودي (1839-1904) ، مصري من القاهرة

عندما أريد أن انتخب شاعراً أسهر مع دواوينه وأعيش مع سيرته يهمني كثيراً أن أبحث عن سؤال كبير: هل كان مهاجراً أو مسجوناً؟ الهجرة والسجن تتضمنان معنى عميق للـفقد، الفقد هذا طوفان من الإلهام والإبداع ، البارودي تم تهجيره لحوالي 17 عاماً مع زعماء الثورة العربية لأنه ناضل ضد الاحتلال ببسالة، يعشق بلد مصر ويجسدها ليتغزل فيها بكثير من الحب والحنين،وقد عاد إليها في آخر عمره لضرورة العلاج وقال حينها “أنشودة العودة

أبياته مليئة بالحكمة والآداب سهلة العبارة، هي ليست للمهتمين بالشعر فقط بل لكل فرد يسعى لتزكية نفسه وترقيتها، لنقرأ مثلاً:

إنْ شئتَ أنْ تحوى المعاليَ ، فادرعْ – صبراً ؛ فإنَّ الصبرَ غنمٌ عاجلُ

احلمْ كأنكَ جاهلٌ ، وَ اذكرْ كأنـــــ ــكَ ذَاهِلٌ، وَافْطُنْ كَأَنَّكَ غَافِلُ

فلقما يفضى إلى َ آرابــــــــــــهِ – فِي الدَّهْرِ إِلاَّ الْعَالِمُ الْمُتَجَاهِلُ

دون أن أتوقف مع الزخم الشاعري في استعاراته وتراكيبه اللغوية البديعة.

وفي الحكمة لنقرأ :

لأمرٍ ما تحيرتِ العقولُ

فهلْ تدري الخلائقُ ما تقولُ ؟

تغيبُ الشمسُ ، ثمَّ تعودُ فينا

وَتَذْوي، ثُمَّ تَخْضَرُّ الْبُقُولُ

طَبَائِعُ لاَ تُغِبُّ، مُرَدَّدَاتٍ

كَمَا تَعْرَى وَتَشْتَمِلُ الْحُقُولُ

يكفي؟!

سأنتقل للضفة الأجمل والأعذب الحب والغزل …

الْحُبُّ مَعْنى ً لاَ يُحِيطُ بِسِرِّهِ – وصفٌ ، وَ لاَ يجري عليهِ مثالُ

وَ كذلكَ الأرواحُ يظهرُ فعلها – وَ يغيبُ عنا سرها الفعــــــــــالُ

حكمٌ تملكها الغــــــــموضُ – فلمْ يحطْ برموزها في العالمينَ مقالُ

وأيضاً:

هَل مِن طبيبٍ لِداءِ الحُبِّ ، أوراقِى ؟ = يَشفِى عَليلاً أخا حُزنٍ وإيراقِ

قَدْ كَانَ أَبْقَى الْهَوَى مِنْ مُهْجَتِي رَمَقاً = حَتَّى جَرَى الْبَيْنُ، فَاسْتَوْلَى عَلَى الْبَاقِي

حُزنٌ بَرانِى ، وأشواقٌ رَعَت كَبِدِى = يا ويحَ نَفسِى مِن حُزنٍ وأشواقِ

وفيها يتحدث عن اغترابه في منفاه “سرنديب” إلى أن يقول:


وهوَّن الخطبَ عندى أنَّني رجلٌ = لاَقٍ مِنَ الدَّهْرِ مَا كُلُّ امْرِىء ٍ لاَقِي

يا قَلبُ صَبراً جَميلاً ، إنَّهُ قَدَرٌ = يَجرِى عَلى المَرءُ مِنْ أسرٍ وإطلاقِ

لا بُدَّ لِلضيقِ بَعدَ اليأسِ من فَرَجٍ = وكُلُّ داجِية ٍ يَوماً لإشراقِ


مذهل هذا الانسان ونتاجه غزير … واقرأوا إن شئتم هذه الروائع :

ما لقلبي من لوعةٍ ليس يهدا؟!

هل من فتىً يُنشد قلبي معي ؟

أبى الضّيم ،فاستل الحسام وأصحرا (رائعة)

أليس من العدل أن تسعما؟


وجهي!

حتى الهواء ماعاد هو الهواء حتى السهر ؛ حتى الأنين!

نظرتُ يوماً إلي.. عيناً لعين ..فوجدت “وجهي تغير!”

و لـ فاروق جويدة :

 

أماه.. ليتك تسمعين

لا شيء يا أمي هنا يدري حكايا.. الحائرين

كم عشت بعدك شاحب الأعماق مرتجف الجبين

والحب في الطرقات مهزوم على زمن حزين

* * *

بيني وبينك جد في عمري جديد

أحببت يا أمي.. شعرت بأن قلبي كالوليد

واليوم من عمري يساوي الآن ما قد كان

من زمني البعيد

وجهي تغيّر!

لم يعد يخشى تجاعيد السنين

والقلب بالأمل الجديد فراشة

صارت تطوف مع الأماني تارة

وتذوب.. في دنيا الحنين

والحب يا أمي هنا

شيء غريب في دروب الحائرين

وأنا أخاف الحاسدين

قد عشت بعدك كالطيور بلا رفيق

وشدوت أحزان الحياة قصيدة..

وجعلت من شعري الصديق

قلبي تعلم في مدينتنا السكون

والناس حولي نائمون

لا شيء نعرف مالذي قد كان يوما أو يكون!!

لم يبق في الأرض الحزينة غير أشباح الجنون

* * *

أماه يوما.. قد مضيت

وكان قلبي كالزهور

وغدوت بعدك اجمع الأحلام من بين الصخور

في كل حلم كنت أفقد بعض أيامي وأغتال الشعور

حتى غدا قلبي مع الأيام شيئا.. من صخور!!

يوما جلست إليك ألتمس الأمان

قد كان صدرك كل ما عانقت في دنيا الحنان

وحكيت أحوال ويأس العمر في زمن الهوان

وضحكت يوما عندما

همست عيونك.. بالكلام

قد قلت أني سوف أشدو للهوى أحلى كلام

وبأنني سأدور في الأفاق أبحث عن حبيب

وأظل أرحل في سماء العشق كالطير الغريب

عشرون عاما

منذ أن صافحت قلبك ذات يوم في الصباح

ومضيت عنك وبين أعماق تعانقت الجراح

جربت يا أمي زمان الحب عاشرت الحنين

وسلكت درب الحزن من عمري سنين

لكن شيئا ظل في قلبي يثور.. ويستكين

حتى رأيت القلب يرقص في رياض العاشقين

وعرفت يا أمي رفيق الدرب بين السائرين

عينان يا أمي يذوب القلب في شطآنها

أمل ترنم في حياتي مثلما يأتي الربيع

ذابت جراح العمر وانتحر الصقيع..

* * *

أحببت يا أمي وصار العمر عندي كالنهار

كم عشت أبحث بعد فرقتنا على هذا النهار

في الحزن بين الناس في الأعماق

خلف الليل في صمت البحار

ووجدتها كالنور تسبح في ظلام فانتفض النهار

* * *

ما زلت يا أمي أخاف الحزن

أن يستل سيفا في الظلام

وأرى دماء العمر

تبكي حظها وسط الزحام

فلتذكريني كلما

همست عيونك بالدعاء

ألا يعود العمر مني للوراء

ألا أرى قلبي مع الأشياء شيئا.. من شقاء

وأضيع في الزمن الحزين

وأعود أبحث عن رفيق العمر بين العاشقين

وأقول.. كان الحب يوما

كانت الأشواق

كان…..

كان لنا حنين!!!