… يحدث لي هذا أيضًا، الوقوع في دوائر تيه مباغتة، في البدء أحاول البحث عن أقرب مخرج وعندما لا أجد، أبحث عن أيّة لوحة، ثم عن أيّ تائه آخر يقاطعني المسافة، لا ظِلال ولا حتى صدى، في الأخير على أهبّة اليأس، سيبدو أيَّ شيء يلوح كما لو أنه علامة نجاة فسفورية عليّ أن أثق بها لأنني لا أملك خيارا آخرا، وعندما أثق ثقةَ الغلبان! تختفي تاركة وراءها علامةَ لغزٍ آخر مُربك أكثر من كونه مثير.
يحدث لي هذا أيضًا يا صديقتي، أن أرى الطريق طريقي بعينيَّ وبقلبي.. لكنّ أقدامي تنكره وخطواتي تتمرّد عليه، لاأفهم شيئا مثلما أنتِ لا تفهمين شيئا الآن وتعتقدين أنني علامة النجاة الفسفورية، تثقين بي فأمنحكِ هذا اللغز المُربك، أنا آسفة.
يحدث لي أيضا أن أُذهل كيف أمكن لكل تلك الخطوات الراسخات أن تتغرّب، أن تضلّ، أن تنطوي في حين يفرد الطريق… ذات الطريق كلّ اتجاهاته، أبحث في وجوه أصدقائي عن عنوانٍ فرعي يمكنني من خلاله إلهام نصّي المسترسل في الدوران، أو عن نقطة يمكنني سحبها لإنهاء النصّ، أو لإلهاء المخيّلة، لكنهم يبدون حينها كما يبدون كلّ يوم، متململين أو واعدين، أرى وجوههم بعينيَّ وبقلبي وملامحي تنكرههم، يحدث لي أيضا أن أضلّ في الطريق، أن أظلّ في وجوه رفاقي، يا ليلى.
يحدث لي أفتح دفتر المهام، دون أن أستوعب نفسي في اللحظة التي ملأت فيها الدفتر أسطرا مرقّمة، مَن هذا الذي كتب هنا؟ من هذا الذي يهتم كثيرا؟ من هذا الذي يرى ما يريد بقوة رؤيته لما لا يريد؟ ما كل هذا الوضوح المُريب الواقف في وجه هذا التوهان المتنمّر؟ فأُحيل تلك المهام إلى مصطبة الضمير المزعج، لتستريح هناك كصبّارة معتادة على فوات السُّقيا.
يحدث لي يا صديقتي أن أتوقف تماما عن محاولة الفهم، فكل محاولة تستولد المزيد من الأسئلة، لطالما أحببت الأسئلة التي تمنحني احتمالاتها احتمالات عدة للتبرير، غير أن أسئلة التيه كأذرع أخطبوط غادر، شرسة، مغروسة في رأس جواب واحد ورديفه: لستُ أدري… لستُ أدري!
دعيني أخبرك أن ما يحدث لكِ، يحدث لي، ويحدث لرفاقنا المتململين ورفاقنا الواعدين على حدّ سواء، كما ترين أنا لا أملك خارطة طريق، لكنني أؤكد لك أنني ذلك التائه الذي يقاطعك المسافة لكنك ولسوء الحظ – مثلي- لن ترينه، لا ظِلاله ولا حتى صداه، إنها إحدى تغلّبات الوجود علينا، إحدى شهواته في استصغارنا كلما تعاظمنا في حيّزنا الوجودي الضئيل، كلما أصبحنا مهووسين بالانتصار والمرح استفززنا تنمّرات الوجود التي يعادل بها هوسنا بهزيمة تيه وتعاسة علامة نجاة موهومة. استرخي يا صديقتي، توقفي عن البحث عن حلول، استرخي تماما، شاهدي ست ساعات متتالية من أفلامك المؤجلة، اهربي إلى عاداتكِ الغذائية السيئة التي تركتيها بجهد، اشربي الكولا وكُلي بطاطس مقليّة في منتصف الليل، استرخي تماما، حادثي رفاقك أحاديث غير مترابطة، تناغمي مع التيه، اسمحي له أن يكسب الجولة، تناولي هذه الجرعة المُرّة من الهزيمة! اهدري الوقت بكل الحماقة التي تحوزينها منذ مراهقتك، دعي الصبّارة هناك دون قلق، سيحدث ودون سابق تنبيه أيضا أن تتوقف شراهة الوجود الغامضة، ورغم أنني أعرف – كما تعرفين- أنها ستعود، لكنّ الحماسة الوليدة لخطواتنا ووجوه رفاقنا ودفتر المهام ستنُسينا قلق الترقّب، ستجعلنا نُنكر أننا نُهزم، من جديد!