اثنا عشر لونا

تطوي ثمان كنزات صوفية بشكل متتابع وآلي: الكُمّان للخلف، طيّة المنتصف، تهذيب الياقة، وتفكّر باستغراق موازٍ: حبيبان للخلف، طيّة منتصف الطريق، تهذيب ياقة النهايةالتي بعدها: مُقابلتا عمل، طيّة منتصف الدوام، تهذيب نهاية اليوم، وهكذا كآلة كادحة لا تحب أن تتوقف.
كنتُ أسترخي على صوفا ليّنة وأتأمل صديقتي في انغماسها مع الكنزات، إنني أملك كامل الحق في تخيّل الأفكار التي تدور برأسها، أنابعبارة أخرىأحب استعارة رأس صديقتي هذه تحديدا في تعليق الأفكار التي لا يرحّب بها عقلي، وأعرف أنها لا تمانع، في إحدى المرات اندفعت وبدأت أجادلها في فكرة علّقتُها داخل رأسها، كنت أعارضها، وأخذتني على قد عقليواستمرت في مجادلتي حتى اتّهمتها أخيرا: مخّك تعبان! فقالت لي بهدوء: طيّب، سأصلح الأمر.
كنتُ أحتاجها أن تطوي كنزة تاسعة، لأن الأفكار استمرت في استرسالها وسيقلقني انقطاعها، كنت تحت رحمتها، وكنوع من انقاذ الموقف، رميتُ نحوها فوطة صوفية لتقوم تلقائيا بتوضيبها، لكنّها قالت: لا، يكفي انشغال، علينا أن نجلس معًا الآن، هزمتني ابتسامتها فلم أشأ أن أخبرها أنني كنتُ بالفعل جالسةً معها وأن مخّها التعبان مسترسل الأفكار التي – وياللورطة!- سيكون عليّ أن أساعدها في التخلص منها.


– أخبارك؟
– عندكِ أوّل بأول.
– لا بأس احكيها مرة أخرى.


يعتقد كثيرون أن الفتيات يجتمعن للحديث عن الموضة وعن الرجال الوسيمين، ونحن نفعل ذلك بالفعل، لكنه ليس كل شيء، في بعض الأوقات لا نجد ما نتحدث عنها سوى أن نعيد جرد أحاديث سابقة مع إضافة بعض التعليقات الجديدة، وهذا لا يقل متعة عن خبر جديد وحصري، نحن نستمتع بكوننا نتحدث مع من نحب وليس بالموضوع الذي نتحدث فيه، صديقتي وأنا – على الأقلنُعرف بصمتنا الطويل في خارج هذه الثلاث ساعات التي نتقابل فيها كل أسبوع، لذلك أشعر أنني على موعد مع حفلة حديث

– تم قبولي في الوظيفة..
– ممتاز!
– لا مش ممتاز! كنت أريدها بشدّة قبل أربع سنوات لكنها تأخرت، وحضرت باهتة.
– “ادّيها ألوان يا بنت!”
– أقضي حياتي تلوين؟ لا، المهم رفضتها.
– الليلة الماضية لم ينتهِ تحميل الفيلم إلا قبل دقائق من موعد دوامي، رغم أني كنت جاهزة طوال الليل لمشاهدته، المهم رفضت مشاهدته.
– نفس الشيء! في غمرة تحاشينا أن نفقد ما نريد، ننسى مناورة التوقيت، ننسى أن قضيتنا هي أن نحصل على ما نريد في الوقت الذي نريد، وليس أن نحصل عليه بأيّة حال!
– خيرة؟
– أنا لا أؤمن بالخيرة.
– ولا أنا.
– التوقيت الصحيح هو الخيرة.

ناولتني قطعة كوكيز كتأييد غير واعٍ ثم تابعت بحماس:

– اكتمال الفيلم قبل دقائق من بدء الدوام، سفرك لمدينة حافلة بعد انتهاء الكرنفال،  الردّ على رسالة دفنها اليأس، انتباهك لكأس الشّاي بعد أن يعود ثقيلا وباردا، دخول..
– دخولك مدينة الألعاب في الخامسة والثلاثين، شراء فستان في تصفية التخفيضات.
– يعتبرونها ديلبالمناسبة!
– نفسهم الذين تفوتهم مناورة الوقت، لا تعني لهم المواسم شيئا فضلا عن فكرة أريده الآن وبأيّ ثمنكنت أريد تلك الوظيفة وبأي ثمن، كانت لدي رغبة مجنونة في المكتب المطل على الشارع العام، عرضوا عليّ نفس المكتب بالمناسبة.

أخدتْ جوّالها بابتسامتها المنتصرة ذاتها وأردفت: أرسلتُ لك رابط حسابه.. تابعيه، ثم انغمست في شاشة الجوّال، تكتب وتبتسم وتكتب وتبتسم عدّتُ إلى استرخائي، وبدت لي كآلة كادحة مرة أخرى، تأملتها من جديد، بدأتُ استعارة رأسها، أردت تعليق الفكرة التاسعة التي أقلقتني، لكنني وجدتها باهتة.

One thought on “اثنا عشر لونا

  1. دائما قراراتنا لا تخرج عن مثلث الزمن و الكلفة و الجودة أو الماهية التي نريدها.
    لا يهم الزمن فتكون الكلفة و الجودة ولذا ننتظر المواسم أو الفرص حتى يصل السعر الذي أردناه وبنفس الجودة التي أردناها. و أحيانا لا تهم الكلفة بل الزمن و الجودة كهدية أو و ظيفة.
    و أحيانا لا تهم الجودة بل الزمن و الكلفة كمسمار بسعر بخس يصلح سيارتي كي أصل.
    هذه الثلاثة لابد منها في جميع قراراتنا. لكنها تسقط جميعها و لا يكون لها معنى عندما نحب فلا يعنينا الزمن و لا الجودة و لا الثمن بل يمكننا أن نحرق بابل لأجلها.

Comments are closed.