180 يوما بعيدا عن تويتر | تجربة

في البدء؛ هذه ليست تدوينة في ذمّ وسائل التواصل الاجتماعي، إن كنت تبحث عن مقالة تندب الأيام التي لم نعرف فيها هذه الطرق في التواصل، قبل أن تلتصق وجوهنا في الشاشات ملاحظة كل تنبيه، هذا ليس هو غرض التدوينة…

أولاً: لماذا؟

أفعل ذلك باستمرار، منذ العام 2010م وأعني منذ تعرّفي على تويتر وأنا أجنح في مرات إلى التخلّص منه جملة وتفصيلا، في الفترة الأولى لتويتر ( قبل الهاشتاق العربي) كانت قاعدتي بسيطة: بمجرد أن يصل المتابعون إلى 10 آلاف أحذف الحساب، بعد ذلك لم تعد القاعدة مجدية لأن المتابعين يزدادون بسرعة إضافية، عملت على فصل المدونة عن الحساب، وعن كل منصة أخرى، ومع ذلك استمر الأمر، فأصبحت أحذف الحساب .. هكذا فجأة! في اللحظة التي أشعر فيها أن ما يحدث في هذه المساحة الالكترونية كافيا ولم يعد محتملا، وهذا الشعور يرتبط بثلاثة أمور:

  1. فلترة المحتوى المتدفق بالقوائم الجانبية، والحذف، والبلوك لا يعود كافيا للسيطرة على المحتوى الذي لا أريد مصادفته بشكل متكرر.

  2. الذباب الالكتروني (نعرفه) يسيطر على المحتوى بشكل يعيق التواصل مع الحسابات التي أتابعها باهتمام.

  3. يشتهر حسابي بشكل يؤثر على متعتي الخاصّة في التواصل.

طريقتي في استخدام تويتر (مابعد 2013) هي للمتعة، للتواصل مع أصدقائي، لمتابعة المستجدات المتعلقة باهتماماتي (القانون، الأدب) ، ولأن(السعودية تحدث في تويتر) وتويتر هو البرلمان الشعبي، فبالتأكيد يهمني متابعة جديد القرارات في هذا الشأن، لا يهمني إطلاقا أيّ جدل يدور حول أيّ من ذلك، لا يهمني من يعترض ومن يؤيد، لأن تويتر منذ فترة طويلة فقد ميزته الحوارية، وأصبح الأمر يحدث كالتالي: رأي – أرشيف – هاشتاق – تنمّر – ولا يمكنك أن تتوقع ما يحدث بعد ذلك.

وكما كنت أقول دائما، ما دمت لا أربح ريالا واحدا من المتابعين (كرقم تسويقي) فإنني بالتأكيد لست مدينة لهم بأي شيء ليتوقعوه مني، كنت أحذف التويت الذي يتجاوز ال 500 ريتويت، وهذه رغبة شخصية ليس لها مبرر مقنع لغيري، لا يوجد لدي مشكلة في الظهور بهويتي، الشخصية والعملية، وأعتقد أنني شجاعة كفاية لتحمل تبعات سلوكي الالكتروني، لكنني ببساطة لا أحبّ ازدياد رقم المتابعين، لذلك كان هذا الرقم مؤشرا دفعني للتوقف في هذه التجربة.

لا أنقطع عادة بشكل درامي، لا أنبّه أحدا، لا أكتب تويتة وداعية، لا أحمّل الأرشيف ( الشيء الوحيد الذي أندم عليه أحيانا) ، كانت الخطة أن أنقطع لثلاثين يوما ( شهر ) .. استرسل الأمر (لحلاوته) خمسة أشهر أخرى، كانت الخطة الانقطاع عن تويتر فانقطعت عن باث أيضا كأثر جانبي، ريّا الشريف .. النفسيّة الأخرى قالت لي: مالفائدة؟ ستكتبين لنا عن كيف وجدتِ السلام الداخلي؟ .. بالطبع لا. لأنني لم أكن أبحث عن سلام داخلي، سأكتب كيف فاتتني الكثير من الأحداث، كيف كان زملائي حولي يتحدثون بقلق عن مقتل خاشجي ويعتقدون أن حربا ستقوم ذلك المساء، بينما كنت أسألهم عن معهد لاستكمال دروس اللغة الفرنسية، وبدوت أمامهم للحظة خارج الواقع كليا، خروجا أشعرني باللذة، لقد عشت في عالمي الخاص المحدود بينما كان العالم كله متوترا مستغرقا في التحليلات .. لقد كانت هذه هي “اللحظة” ، لحظتي … التي شعرت فيها أنني بالفعل أملك عالمي! … وهنا حصلت على خبر جيد: عالمي الخاص المحدود الذي لا يحتوي على نافذة تسجيل دخول ولا تنمّر و لا هاشتاق :ليس مملا …

خلاصة التجربة:

  1. كنت أتوقع أن تشتت انتباهي بسبب التواصل الالكتروني سيخفّ لصالح التركيز على هواياتي الأخرى: القراءة، الكتابة، التعلم .. لم يحدث ذلك، بقي روتيني كما هو، أقرأ بذات الرتم، أمارس ما أحب في ذات الوقت، وذلك ساعدني على فهم أمرين، الأول: انقطاع عادة سلبية لا يعني تولّد عادة إيجابية، العادة الأخرى تحتاج جهدا إضافيا لاكتسابها، وليس فقط انقطاعا عن العادة المضادة، الأمر الثاني، سأحتفظ به.

  2. السّعودية تحدث في تويتر، جميع الأمور التي تحدث صخبا حادا في تويتر، سوف لن تصادفها في يومك الاعتيادي وأنت ذاهب لتناول قهوتك، الناس لطفاء في الأغلبية العظمى، حلوين! يحبون المساعدة، ولا يتنمّرون على الغرباء.

  3. لن يفوتك شيء، الأمور المؤثرة ستصلك أخبارها بالقدر الكافي.

  4. التدفق السلبي على تويتر، انقطع تماما في الحياة خارجه، وهذا الأمر أعجبني.

  5. بعد الشهر الثاني، أردت العودة إلى أحد نصوصي المنشورة في تويتر، لم أتمكن من ذلك، ندمت للحظات على عدم تحميل الأرشيف، لكنني واسيت نفسي: سأكتب غيره!

  6. العلاقات اليوميّة أكثر جدوى من العلاقات على تويتر، كشخص كسول اجتماعيا، وفّر لي تويتر منطقة راحة لممارسة الحياة الاجتماعية بعيدا عن الارتباط الواقعي، وكان ذلك أحد أسباب خوضي لهذه التجربة، أردت الخروج من هذه المنقطة المريحة، وأعتقد أنني حققت هدفي بشكل كبير.

  7. انتهت التجربة، وعدت بحساب آخر، رحلة أخرى، بدون أيّ حماسة، غواية الأصدقاء توقفت عن مقاومتها، الأدباء والساخرون في تويتر كذلك، أريدهم.

وبس.

إلى خافير … من الأرجنتين

خافير هو المستخدم الذي قرر مشاركتي حسابي في نتفلكس، ولأن حسابي مؤمّن بشكل كاف لم تكن مهمة اكتشافه صعبة ومن أول تسجيل دخول،

كل مافعلته هو أنني تأكدت أنه مستخدم عادي يريد مشاهدة الأفلام، خافير لا يريد الوصول إلى الإيميل أو حتى جهازي، يريد فقط مشاهدة الأفلام، ودون أن أتواصل معه، منحته عدة أيام للضيافة، العرب يفعلون ذلك بلا مبرر دائما، هذا الأمر الذي يستفز المهتمين في التقنية والحماية، لا يجب أن تستضيف أحدا على جهازك أو حسابك، لكنني فعلت ..

ومن اليوم الأول لدخول خافيير قرر إنشاء ملف خاص به، أحترمت ذلك فيه، لأنه من المزعج أن تستخدم ملفي الخاص وتربك نتفلكس في تحديد تفضيلاتي وقوائمي، كلنا نعيش تلك اللحظة التي لا تعرف ماذا نلبس فيها أو ماذا نأكل أو ماذا نشاهد، شكرا للخوارزميات التي تمنحنا إجابة مريحة وجاهزة على شكل اقتراح، كما يفعل الأصدقاء، رغم أنها في الوقت ذاته تخلق لنا مساحة آمنة ساشعة أكثر مما كنا نرتاح فيه مسبقا، فنعيش وهم الاكتشاف المتجدد بينما نحن في الواقع نعيد تكرير تفضيلاتنا تحت عنوان ( هل تقصد ..؟) ، المهم أنني لاحظت أن تفضيلات خافير لم تعجبني لكن ذلك أمرا يخصّه …

ولمدة يومين كان خافير مشغولا أكثر من اللازم في تعديل ملفه، حتى أنه لم يشاهد أي فلم، ماهذا يا خافير؟  لديك مكتبة بمئات الأفلام وأنت مشغول في تغيير لون الملف وصورته؟ دخل خافير حسابي وظن أنه سيعيش أبدا، حتى أنه بدأ في اليوم الثالث بإنشاء قوائم للأفلام، لا أعرف إن كان يخطط لمشاهدتها على مدة الثلاثة شهور القادمة أم أنه مجرد شخص مهووس بترتيب الأشياء، لكن الأكيد أنه كان يستمتع بما يفعل، كانت القوائم منشأة قبل إضافة الأفلام إليها، وهذا يرجح الاحتمال الثاني، هذا الرجل لديه تصنيفات في رأسه ويريد أن يرى العالم مصنفا، حتى وإن لم يوجد أي فلم تحت هذا التصنيف، هؤلاء الأشخاص عادة مريبون ولديهم اهتمام مفرط بما يجب أن تبدو عليه الأشياء في هذه الحياة بشكل عام، يفترضون أنك يجب أن تطلب قطعة شوكولاتة مع القهوة ، وكعكة ليمون مع الشاي، لكنك لو قررت مفاجأة الموقف وطلبت أمامهم برقر مع لاتيه ( كما فعلت أنا بالأمس) سيعتبرونك فورا غريبا، وتفعل أشياء خارج قوائم التصنيف، وستبدو لهم مريبا، كما يبدون لك ..

في اليوم الرابع، ونظرا لأن مدة الضيافة قد انتهت، فتحت ملف خافير لأرى إن كان في منتصف مشاهدة فيلم فأنتطره حتى ينتهي ثم (أطيّره) ، وبالفعل كان للتو قد أنهى أول خمس دقائق من فيلم أرجنتيني، ولحظة … قبل الدخول إلى ملفه، لاحظت أنه قام بتغيير لغة الحساب بالكامل إلى اللغة الأرجنتينة، خافير لم يظن فقط أنه سيعيش أبدا بل أيضا بدأ يتصرف وكأنه “يرفض المسافة، والسور، والباب، والحارس” وتعدى كونه “يمون” إلى أنه يملك الحق في تغيير لغة الحساب، ولمن لا يعرف مثلي فإن الأرجنتينية – بحسب الدرس الأول الذي قدمه خافير- لا تتقاطع مع المفردات الانجليزية بشيء، لا يمكنك تخمين معنى الكلمة، اضغط عشوائيا و”يفتح الله” ، وكانت هي اللحظة التي شعرت فيها بإحساس والتر وايت عندما قال:

وداعا خافير، أتمنى أنك الآن تحظى بفرصة أفضل في حساب آخر تكمل فيه مشاهدة فيلمك السخيف D:

جرعة زائدة من الواقعية …

يبدو يوما مثاليا لمواجه القلق والخوف بصدر أعزل، عدوّان ماهران وصدر مخطوف الأنفاس، ككل المواجهات التي لا نملك فيها رفاهية الهرب

…ننجو مرة أخرى، وبالطريقة التي يبالغ فيها الأبطال الخارقون عند إرسالهم في مهمّة خطرة، نعود مرتعدين، نحاول التأقلم من جديد مع رتم الحياة كما تبدو في طبيعيّتها، ثم نكنشف أننا نجونا هذه المرة ولكن حدث خطأ هامشيّ، نجونا مصابين بجرعة زائدة من الواقعيّة …

نعود لنسمع أغنياتنا المألوفة، يتخلّف عن الألفة شطر منها، أو نوتة، نشعر أن ذلك يفوق ما نستوعبه من الواقعيّة، نصف الأغنية بأنها “مبالغة شعورية” أو “دراما” ، ثم نودّ لو أننا قادرين على أن نبالغ في شعورنا بما يكفي ليكون أغنية!

هزمتنا الواقعية يا صاحبي، بفرد الاحتمالات، ، هزمتنا بالخطط البديلة التي نحملها على أكتافنا لأننا واقعيين ما يكفي لتوقّع كوارث فادحة، هزمتنا عندما انسكبنا على دفعات بدلا عن أن ننهمر، هزمتنا يا صاحبي بماذا لو، صحيح ولكن، تقريبا … ليس إلى هذا الحد!

فقدنا هدئة المجاز في كل مرة أصغينا فيها لصخب الحقيقة، أطفأنا الوجد بالاعتذار المسبق عن الإزعاج، استرخينا على الشاطيء الآمن، نسينا روعة الأمواج!

تركنا العشم على قارعة الطريق، وقفنا على الحافّة بمهارة المتخفّفين من ثقل الرغبة، نعالج التأرجح – إن حدث – بالاستعداد للسّقوط الحر، فلا شيء نخسره

صادقنا الأدرينالين الذي لعنّاه ذات مرة، استبدلنا استناد الأكتاف بضربة “هاي فايف” خفيفة، ولم يفقد الأمر متعته، واكتشفنا أن صدورنا يمكنها البقاء .. كما تفعّل صبّارة!

صاحبي، أنت بخير،

إلى أن تعود مصابا بجرعة زائدة من الواقعية، ويستعصي عليك شطر في أغنية!

فيلم “فضيلة أن تكون لا أحد” : دفء المواساة

يقف أبو ناجي على الطريق حاملا حكايته، يتوقف له أبو محمد بسيارته، ويعرض عليه “توصيلة” مجانيّة.. تبدأ الحكاية:

        “-أبو ناجي: لو ناجي الحين موجود كان هو كبرك(… ) ناجي مات…

         -أبو محمد: (… ) ولدي ضاع مني في الحرم قبل أربع سنوات (… ) مالقيناه

         -اشوا إن ولدي مات ماضاع!

         -صحيح. أحيانا تفقد الشيء مرة وحدة أريح لك!”

كم مرّة ظننتَ فيها أنك بطل القصّة الأكثر فرادة في العالم؟ تجربتك الاستثنائية في مصاعب الحياة أو مباهجها التي تحكيها بأكثر الألفاظ تأثرا، حتى اصطدمت بغريب يقول لك: “أعرف ذلك، لقد حدث لي أيضا!” ها قد أحرق فلمك، وأفسد عليك شعورك اللذيذ بجدوى ما كان يحدث لك، إذ لم يكن يحدث ليميّزك، فهناك دائما شخص ما “حدث له ذلك أيضا” ، شعور بالخيبة يعتريك لأن معناك الخاصّ تم تكراره، ومن يدري.. ربما تم اقتباسه، وكل ما حصلت عليه هو نسخة مقلدّة أو مستعملة من حكايات الآخرين. ذلك هو دفء المواساة … إننا جميعا نختبر ذات التجربة البدائية للحياة، مهما اختلفت قصصنا، تباغتنا ذات الأسئلة، نشعر بذات الهلع، وكل ما نبحث عنه هو دفء المواساة، لا يعود مهما إن كنت أحمل قصّتك أو قصتي، إن كنت البطل أو لا أحد. المهم هو أننا جميعا متورّطون.

في فيلم “فضيلة أن تكون لا أحد” القصير، لبدر الحمود، شعرت بتلك الورطة، المواجهة التي نتقنّع خلف اسم مستعار أو وجه غريب قبل أن نخوضها ونعدّ أنفسنا شجعانا، أمام سؤالات الحياة الأولى، الخوف، الفقد، السعي للتشافي، والغرابة التي تفاجئنا بها ذواتنا، الورطة التي لا نعود بعدها قادرين على التظاهر بأننا نفهم ونعي وننسجم، وينكشف هلعنا المركّب جرّاء بساطة الحدث، حيث المحور هو القصة، لا البطل الذي هو “لا أحد”.. ستشعر في هذا الفيلم أنك “لا أحد” في حفلة المواساة هذه.وقبل أن يفلتك الحمود في ختام الفيلم.. تسمع : “أنا راجع أشوفك” ينقذك بها طلال ليهدئ من روعك إلى حين تكتمل أسماء الممثلين…

 

             “أبو ناجي -عن زوجته- : ما أذكر كيف عشنا أربعين سنة وكيف ربّينا البنات، بس أتذكر أشياء صغيرة وماهي مهمة زي لما مرّة طاحت من النخلة.. وضحكت عليها”

●هندسة الفراغ

يعرف مصصمو الديكور أن للفراغ مركزيته الجمالية، و-شخصيا- عندما أصمم سيناريو ما، فالطريقة التي أفكر فيها هي ترتيب الكلمات داخل الفراغات. الفراغ/الصمت هو الأصل، الكلمات هي الموقف الطاريء، بالنسبة لي تنتهي المخاطرة بالفراغ ببيع السيناريو للعميل، بالنسبة للحمود – ولأي مخرج- تبدأ المخاطرة في اللحظة التي يتوقف فيها الممثل عن الحديث، في معالجة الصمت، بحركة الأشياء، وأصواتها، ملامح الممثلين. استطاع الحمود أن يُخرج من القدير إبراهيم الحساوي مالم يخرجه في أكثر مسلسلاته، وأن يكشف لنا وجها بديعا للحساوي لم نره من قبل، مستغرقا في الواقعية…

قرأت مرة حديثا للمخرج والسيناريست مايكل هانك -(رابط لمشاهده الفراغيّة) – يقول فيه: “إنني أقترب من الواقع لأصوّر تناقضاته، على السينما أن تكون واقعية عوضا عن أن تكون حالمة!”، هانك الذي قاد ممثلته (إيمانيويل غيفا) نحو البافتا لأفضل ممثلة بفضل استغراقها في واقعية الصمت في فيلم الأوسكار (Amour). ففي عالم نقوم فيه بتعديل وتحسين حتى صورنا اليومية لتظهر بشكل حالم، يكون الفن هو ممارسة الواقعية التي يهرب منها الجميع، أصوات الشارع وحركة السيارات عوضا عن الموسيقى، كاس كرك عوضا عن كوب ستاربكس، مطعم هندي في شارع مكتظ بالعمالة الأجنبية عوضا عن فيلا مذهّبة، تلك كانت اختيارات الحمود في الفيلم التي أعتقد أنها موفقة جدا. فيلم سعودي “شرقاوي” بامتياز. وعلى الهامش أقول: أحترم الرجّال الذين يحملون قُراهم على أكتافهم أينما رحلوا. لا أشك أن الحمود كان يريد أن يقدم للعالم خارطة مدينته، محلاتها البسيطة، شوارعها، وأن يقول: أنا من هنا. باعتبار بيئة الفيلم. ربما سيكون إظهار هذا الانتماء الدافئ ثيمة للحمود، من يدري؟ إذ ظهرت منذ أول فيلم شاهدته له (مونوبولي-2014).

 

 

●هندسة الحوار:

يتبادل أبو ناجي الحوار مع الشّاب “أبو محمد”، يُروى الفيلم على طريقة سؤال وإجابة، هل أنت -مثلي- من الذين يعتقدون أن الحصول على حوار مسترسل وعميق مع شخص تلتقيه لأول مرة هو إحدى “إكراميّات” الحياة؟ يحاكي الفيلم هذه التجربة، ستشعر بدفء المواساة مرةً أخرى. وفي اللحظة التي تشعر فيها بذلك الدفء، سيباغتك الحمود بقلب الحكاية!

        “أبو ناجي: شوري عليك تروح تاخذ عمرة، تشرب من زمزم، ترى هذا اللي بيطيّب خاطرك

         أبو محمد: تدري عاد إني ضيّعته عند بير زمزم؟!”

هذا هو اقتباسي المفضّل من الفيلم، هذا التناظر في تصوير “المقدّس/زمزم” بين وجهتي نظر متقابلتين، رمز واحد”زمزم” للشفاء والعلّة على السواء، الواقعيّة غير المنمقة، التي تحدث عنها هانك.

ختاما،

فيلم “فضيلة أن تكون لا أحد” هو الفيلم الذي تودّ أن تشاهده ورأسك يميل على كتف من تحب.

تجربة شخصيّة| عُشرون يوما من البُطء (ج١)

مُستفزّ صحيح؟ أعني البُطء… عندما يبدأ شخص ما في حكاية قصّة ثم تكتشف أنه يتحدث ببطء مبالغ فيه، تخاطبه بينك وبين نفسك: “كنتُ متحمسا لسماعك..لماذا غدرت بي؟” أو عندما تتأمل النادل وهو يضع ثمانية أطباق على الطاولةببطء مستفز، ليس لأنك جائع، وليس لأن الرضيع في الطاولة المجاورة بدأ في البكاء، ولكن لأنك معتاد على رتم أسرع في القيام بالأشياء، وتفترض من الآخرين أن يكونوا “طبيعيين!” مثلك، بينما هو يحمل الطبق ببطء.. لا تحتمل إلا أن تشغل يديك بعمل ما على الطاولة، ربّما ترتّب المناديل المرتبة، أو تعيد رصّ طقم أدوات الأكل، كأنك بذلك تحاول استعجاله أو تعيش محاكاة موهومة لعلّ المهمة تُنجز بالفعل أسرع! ولا تفهم من فَعّل حياة هؤلاء الأشخاص على خَيار سُلو-موشِن ! تشاهد مقاطع مسرّعة لفنّان ينجز لوحة واقعية في ثلاث دقائق، تبحث عن وصفة طبخ مضغوطة في ١٥ثانية، عندما تطلب من طفل أن يحضر لك كوب ماء، هل تُنهي طلبك بكلمة “يالله بسرعة” بدلا عن “على مهلك” … هل تبدو كلمة “على مهلك” جديدة على قاموسك؟ تقول: من هذا المجنون الذي يُريد لاحتياجاته أن تُنجز “على مهل”؟ إن كنتَ كذلك فعلى الأرجح ستفهمني، وستفهم دوافع هذه التدوينة.

لماذا أردّتُ تجربة شيء يستفزني؟

لقد رُبّيت في بيت يعتبر انجاز الأمور بسرعة واتقان مهارةً تستحق التقدير، وربما علامة على الذكاء، وحيلة في لعبة الحصول على إعجاب الوالدين، وعندما تكون الابن الأوسط، الترتيب الخالي من الامتيازات، ستفكّر كثيرا في اللعب بإلحاح أكثر للصعود على المنصّة وقت التتويج، فلو كانوا سريعين، سيكون عليك أن تكون أسرع، ولقد كان الأمر ممتعا في وقته، وبشكل أدقّ .. ساعدني ذلك على الزهو، أن تُتوّج وأنت الوحيد الذي لم يغشّ في اللعبة. كنتيجة عكسية لذلك أصبح كل شيء يُنجز بشكل أبطأ وأمهل .. علامةَ عندي على عدم الاتقان، وضعف المهارة، وبجرعة من الدراما الواقعية.. علامةً على الهزيمة، وأنا أكره الهزيمة، من صغري. وعندما أقول: “كل شيء” فأنا حرفيّا أعني.. كُلّ شيء.

كُبرت على ذلك، وأضفت له نكهتي الخاصّة، طوّرت مهارة الانجاز السّريع المتقن، استخدمتها في جميع الوظائف التي عملت فيها، لم يحدث أن رُفضت في أيّ مقابلة عمل.. وكنت دائما أذكر هذه النقطة كميزة وفيما يبدو كان الأمر مرغوبا جدا، لا تزعجني مواعيد التسليم لأنني أنتهي قبلها، الأعمال الطارئة لا تُربكني يمكنني تدبّرها، في المجموعة… أكون ذلك الشخص الذي يتم الاتصال به وقت الأزمة ليعالجها أو يخفّف من أثرها، وكشخص مدمن على العمل فكان كل ذلك مصحوب بمتعة فائقة، أحببت الأدرينالين، صديقي الّلدود. ثم لاحظت أن لي تأثير سيء على الأشخاص المتأثرين بي في العائلة أو الزملاء، كنت أستعجلهم رغم اتساع الوقت، أستمتع بخلق جوّ تنافسي دون أن يكونوا مهتمين بالتنافس. أتذكّر أنني أنتقد أخي لأنه يمشي ببطء، أسأله: لماذا لا تُسرع؟! يعارضني ويقول: لماذا أُسرع؟! كنّا نتحاور، وقد ساعدني لُطفه البالغ في الانتباه للدوامة التي كنت أستمتع بالدوخان فيها! دون أن ألاحظ العمق القاتم الذي تجرّني إليه، نحو الأسفل، نحو الهزيمة التي أكره.

هزيمة أن تفوتك نكهة الحياة بينما أنت مشغول جدا بانجازها. أن ترقص أسرع مما تتوقّعه الموسيقى، حتى قررت قبل نحو شهر،  البدء في مشروع البُطء، ولعشرين يوم فقط، دون أن أعرف إلى أين سيأخذني ذلك.

خرائط التيه … رواية

لماذا تقرأ رواية لأكثر من ٣٠٠ صفحة؟ تبحث عن حبكة مثيرة؟ وقتا لنسيان المهام المعلقة؟ أو مجرد الرغبة في قضاء وقت خاصّ مع المؤلف؟ أزعم أننا في كل مرة نقرأ فيها رواية نكون مدفوعين برغبة محددة حتى وإن لم نستطع تسميتها، عندما اخترت خرائط التيه كنت أبحث عن نصّ يتحدى قاموسي اللغوي، اللغة النظيفة، أردت الالتقاء بمفردات جديدة غير تلك التي نجدها في الأخبار والمقالات، ما أسوأ أن تقرأ رواية مكتوبة كما لو أنها مقال طويل لأن المؤلف يخاف من أن يبدو متحذلقا، أو ربما يريد من الجميع تصوير الاقتباسات السهلة في تويتر، هذه الموجه الساخرة من الكتابة المحترفة(والقهوة المسكينة؟) أصابت الكثيرين بالخوف، أصبح الكُتّاب يريدون الكتابة بأسهل طريقة ممكنةهذا ليس هو طريق الأدب، كما أن الأدب بالتأكيد ليس على طريقة محمود درويش. لطالما كان الأدباء سادة الاشتقاق والتصريف وحتى إنشاء مفردات جديدة. الأدب العظيم كان يرفد لغة النّاس حتى تدخل شخصياته في أمثالهم، وصوره الأدبية في توصيفاتهم، يتدخل الأدب حتى في اختيار أسمائهم على الهوية الوطنية، يا لذلك الخيط الرفيع بين أن تكون أدبيا بليغا لكن في نفس الوقت مفهوما! سهلا ممتعنا، بالنسبة لي، مَللت، مللت اللغة الصحفية، البيضاء، التي تصفّ ثلاث كلمات خالية من أي جمالية بنائية من أجل تحاشي كلمة واحدة أكثر بلاغة لكنها أقل تداولا. بثينة العيسى في خرائط التيهكانت ضربة موفّقة.

سلخ عنها غشاءها، كاشفا عن باطنها الأصفر اللحيم، المتدفق بالعصائر، هذه ليست لك، إنها لي؟

ما الذي تصفه بثينة هنا؟ مجرد ثمرة مانجا.. خدعتك؟! أليس بديعا؟، ماذا عن بياض الشعر جانبي الرأس؟ هذا ما سيقوله الكاتب العادي، بثينة تقول لك: “ فوْديهلغةٌ محترمة يا صاحبي. فازت علي بثينة مرة واحدة في الصفحة ٢٣٣ عندما قالت: “تكاثرت الغضون حول فمه، لم أكن أعرف معنى الغضون هنا، ووضعت فوقها علامة استفهام. كان ذلك كافيا لابهاجي. أهلا أيتها الكلمة الجديدة، تشرّفنا.

امتلأ أنفه برائحة حامضة، وسمع رفيف أجنحة

 أخذ يعدو خَببا

 رائحة الدم، احتكاك المباضع، خشخشة الثلج وهو يطمر عينين سوداوين

كان صوته مُجلّلا بالعار!، المرأة التي هي مزيجٌ من أختٍ كبيرة، وخدينة متمرّسة

داهمه دوارٌ غريب، مثل مليون حاجٍ يطوفُ داخل رأسه

 البعض منا يساعده الله، البعض الآخر .. عليه أن يساعد نفسه .. يا لقلة الحيلة

هذه الصور الشعرية، المجاز المباغت ، الوصف المستغرق للحظة التي تهرب وتظن أنك غير قادر على التقاطها، تِك .. فِلاش .. تلتقطها بوضوحٍ عالٍ، من أجل ذلك كان فنّ الرواية، فنّا يتطلب مهارة الترصّد والقنص. رأيت ذلك في خرائط التيه.

عائلة كويتية صغيرة، مع ابن وحيد.. اسمه مشاري، تتجّه للحج، تنغمس في ثلاثة مليون حاج، شابورة طريّة في حليب ساخن، وفي الدّوامة البيضاء حول الكعبة، يُبتلع طفل السابعة هذا، تضيع الأم في تسابيحها، يسلخ أبو مشاري إيمانه مع إحرامه. عصابة خطف للأطفال؟ بيع أعضاء؟ صحراء سيناء؟ إسرائيل؟ أنت لا تدري أين يمكن أن تصل بك الأحداث، وفي اللحظة التي تعتقد فيها أن الروائية ستأخذ لنقطة أبعد، تقول لك: كفى! لا يهم وتتوقف. تركّز بثينة على التجربة الانسانية في الضياع، ضياع الابن كحدث، ضياع الذات، أكثر من تركيزها على تعقيد الحبكة، النهاية غير متكلفة، وددت لو لم يمكن هناك فصل الرسائل، سيكون من الرائع لو انتهت الرواية قبله.

بقي أن أقول، أنني استغرقت وقتا طويلا في قراءتها، ربما شهر، وذلك أفقدني أحيانا كثافة الشعور ببناء الأحداث، لكنني مع ذلك حصلت على ما أريده منها، سعدت بالتعرّف على بثينة كروائية، وعلى تكوين.

 

التخفّف ، فيلم وأشياء أخرى

بطبيعتي لا أنجذب نحو الفكرة الرسالية، والأشخاص الرساليّين أو التبشيريين/الدعاة، الدعوة والانضمام إلى مجموعة لها شعار ومبادىء وقائمة من الأفكار،شيء لا يشبهني في شيء. أستخدم الأكياس الورقية لأن صوتها يعجبني ولونها وملمسها كذلك، أستخدم الماء بدون إسراف لأنني أكره المبالغة والبلل الفائض، لا تحدثني عن البيئة ولا عن خطورة نقص المياه، أنا لا أريد إنقاذ الأرض لكنني أتصرف كما لو أنني سأفعل، أعتبر نفسي انسانا متخُففا دون الحاجة لأن تحدثني عن فكرة المينيماليزم أو تسميني مينيمَلست، لا أعرف ترجمة معبرة لهذا المصطلح ( المهوسون بكثرة الكلمات العربية نسبة إلى الانجليزيةتفضّلوا؟ ) مفردة التبسيط” – بالنظر إلى الطريقةكلمة أصحّ من التجرّدالتي اختارها مترجمو نتفلكس، لكنني سأختار: التخفّف. بالنظر إلى الغاية. فالغاية من تبسيط نمط حياتك هي أن تتخفف من عبء أحمال مادية غير مبررة.

قبل مشاهدة هذ الوثائقي كان مصطلح مينيماليزم مرتبط في ذهني بكونه أسلوب فنّي أحبه جدا تطوّر في الستينات ميلادية، في الفنون البصرية تحتوي القطعة الفنية أقل عدد من الألوان، وفي التصميم أقل عدد من العناصر، وإذا كنتم سمعتم نكتة حول لوحات الفن الحديث في المعارض، حيث تباع لوحة كبيرة بمبلغ ضخم وهي لا تحتوى على أي شيء غير لون واحد،فهي تحمل هذه الفكرة غالبا، هل رأيتم تاتو لخط واحد أو مثلث بسيط أو ثلاث نقاط متتالية؟ هذه أيضا علامات رمزية لفكرة التبسيط، امتد التأثير أيضا على على الآداب، الرواية المصممة على طريقة المينيمالزم تستخدم مفردات بسيطة ومباشرة وتترك وصف الشخصيات للقاريء (فكرة سيئة)

أن تحرص على ألا تطحنك الآلة الدعائية وتدفعك للشراء غير المعقول لمنتجات لن تستخدمها، هذا أمر سليم، لكن أن تربط بين عدد القطع التي تمتلكها وبين السعادة شيء لا أفضل التسليم به، التخفف الذي أمارسه ليس في الإبقاء على ٣٠ قطعة ملابس لأستخدمها في سنةالفكرة التي يقترحها الفيلمأنا أحبّ الفساتين، أحذية الكعب العالي، وسأشتري منها قطعا لن أرتديها، لأن مشاهدتها بحد ذاته أمر ممتع، ليس لأن العارضة في الدعاية أقنعتني، وليس لأنني أريد قبولا اجتماعيا، أنا أفعل ذلك بدافعٍ فنّي خالص، هذه الأمور بالنسبة لي قطعا فنّية،ولأنني شخص منظّم بطبعه أيضا، فلا يمكن أن تجد في مساحتي قطعا غير مفيدة، في حين يركز الفيلم على التخفف الاستهلاكي المادي. هناك تخفّف آخر أحرص عليه

  • التخفّف من الذكريات

أحتفظ برسائل الأشخاص الموجودين في حياتي الآن، ليس الذين رحلوا بإرادتهم، هناك شخص واحد أو اثنين مسموح أن أحتفظ بكل حرف وصل منهما إلي، كل شيء آخر قابل للحذف، أحتفظ بالهدايا التي أستخدمها ليس قوارير العطور الفارغة، أفعل ذلك لسببين: الأول: لا أحب تكديس الأغراض، الثاني: في العمر متّسع لصناعة المزيد من الذكريات، لماذا أحبس الزمن في ذكرى واحدة؟ بدل أن أطالب أحدهم بالاحتفاظ بقارورة عطر أهديته إياها، ليرمها، وسأستمر في إهدائه المزيد من الذكريات.

  • التخفّف من الذاكرة الالكترونية

عندما أشتري جوالا جديدا أختار الذاكرة الأقل مساحة ( آيفون ١٦ جيجا!) حتى ابل نفسها ندمت على ذلك:) ، لا أحاول التقاط أفضل سيلفي في الدنيا لذلك لا توجد عشرين محاولة لصورة واحدة،غالبا أنجح من المحاولة الثانية، جوال العمل يعمل على مدار الساعة،لكن جوالي الخاص لا يوجد فيه حتى اشتراك انترنت غالبا، القاعدة: كل شيء أشاهده في الخارج يمكنني مشاركته عندما أعود للبيت. كل الأشخاص الذي يكتبون لي في واتساب يمكنهم الانتظار، لا أحد في خطر ويرسل لك في واتساب.

  • التخفّف من الأشخاص

لدي أصدقاء رائعين، وأقارب كذلك، ومنفتحة دائما لاكتشاف أشخاص جُدد واترك بيننا مساحة لتفاجئني الحياة، لكن ذلك لا يعني أنني سأتحدث على الهاتف طوال الوقت، أو سأتابع عشرين مشهورا في سنابشات أو تويتر، قائمة الحسابات المحظورة في تويتر أطول بثلاثة أضعاف من التي أتابعها، ليس لأنهم أشخاصا سيئين، لكنني لا أريد الصدفة المثالية التي نادرا ما تكون أن تأتي لتجمعني بهم. أعتقد أن ذلك يرفع حظوظي من الالتقاء بأشخاص رائعين. إذا كنت تلاحظ أنك مُحاط بأشخاص لا تحبهم أو أنهم يتدفقون إلى مساحاتك، تأكد أنك منحتهم فرصة ليحجبوا عنك الأفضل. أختار أن أتخفف لأمتليء بالذين أحبّهم فعلا الذين بدورهم سيكونون طريقا جيدا للمزيد من الأشخاص المماثلين، هذا انتخاب اجتماعي يحدث عفويا إذا كنت تحرص عليه.

  • التخفّف من التحديثات

يتفق هذا العنوان مع كتاب قرأته مؤخرا سيكون من الأفضل تركه إلى مراجعة الكتاب.

  • التخفّف الشعوري

لا أقول أنني تلك التي لا تكره، لكنني لا أجعل الكراهية خيارا أوليا، ليس تجاه الأشخاص ولا حتى الأشياء،أستخدم عبارات مثل( لا أرتاح، لا أفضّل، غير مناسب) على لفظ ( أكره ) أكتشفت أنني أفعل ذلك عفويا بدون تفكير. التلهّف، الشوق، الحب أيضا، أحاول ألا أذهب إلى أقصى نقطة، لا أنجح في مرات عديدة لكنني أحاول.

أختم بأكثر اقتباس أعجبني من الفيلم: “ أحب النّاس، واستخدم الأشياء، لأن العكس لن يكون مجديا أبدا

للمشاهدة: (يتوفر مترجما على نتفلكس ) هنا

وجدت أيضا تدوينة لنوال القصير: هنا

مصافحة

أحب الأيدي، وتشدّني الفكرة الفنّية الرائعة من وراء تصميم الكفّ، كتبت عن هذا مرارا باقتضاب وساءلني الأصحاب عن وجاهة انحياز كهذا نحو عضو لم تحتفِ به الأغنيات كثيرا ولم تحمله مجازات القصائد، لكنني أصرّ على موقفي، لطالما وجدت في النظر إلى كفّ المقابل فرصةً لاستجماع فكرة أو ترتيب صياغة، حتى إن المصافحة الحميمة الطويلة وتشابك الأصابع في مسير صامت يبدو لي أعمق في الذاكرة من الأحضان وأكثر إسنادا من الكتف، وتعبيرا بليغا عن التعاضد والمواساة والمحبة، أقل بقليل مما يفعله الاستغراق في قبلة، أكثر بكثير من مجرد نظرة، لم يحدث أن نسيت ملمس كفّ أحببت لمسها، أبدا.

والأمر ليس دائما حميميا، لكنه دائما رائع، وأحيانا مثير للتأمل العبثي، قبل أيام صافحت رجلا تحية عابرة، كان ضخما وكفّه هائلة بالطبع إلى حد أن التقى ابهامه بسبابته دون أن تشكل كفّي النائمة هناك حاجزا يُذكر، وقد استرعى الأمر انتباهنا، رمى نكتةً بخصوص هذا التباين الخطر في الأحجام، وأنا لم يخطر لي إلا صوت كاظم وهو يغني “..وضيعي في خطوط يدي” على نحو مرعب ليس رومانسيا، شعرت أنني لن أستردّ كفي، ثم ستغوص يدي في تلكم المغارات في يده، ثم ستبتلعني كاملة وسأضيع في خطوطٍ تعجز عرّافة عن جمعها وتشكيلها في أقدار مفهومة، أو ربما سأتلاعب بتشكيل خطوط يديه وأغيّر مجرى الأقدار، ثم تخيلت نفسي هناك بحجم مجهري، أضيع في الرقم ثمانية عشر بينما هو يشرح لطفل ما معجزة الرقم ٩٩ وعلاقته بأسماء الله وأنا أعترض على هذه اللعبة ثم أدرك أن لا أحد منهما يراني، بالطبع احتفظت بسلسلة الأحداث الكرتونية هذه في خيالي لكنني أخبرته بالكوبليه. ويبدو مهما لي أن أذكر أنني أنفر من الأشخاص الذي يبالغون في الاقتراب والملامسة، لكنني أبالغ في نطاق رفاقي المحدودين، وأجده موقفا غير مريح أن يحدثني الغرباء من مسافة قريبة.

هذا التفضيل يعود للطريقة التي أفضّل بها الأشياء، كل الأشياء في هذه الحياة، وهي طريقة المواربة، وإرجاء نصف الموقف إلى المخيّلة، جميع الأعضاء التي نتواصل بها مع الآخرين ( هذه الجملة مريبة … ) أو التي نتواصل بها مع أنفسنا، لها موقف صريح، العين لتحميض الصورة، الشفاه التهام نهائي…. أيّا يكن ما تفعله بيديك فلا يمكنك اعتباره موقفا صريحا لكنه بالتأكيد دالّ.  اليّد التي تعصر خصر صبية، تحاول أن تخيط أناملا في تموجّات الفستان لتصبح جزءًا منه، وتبقى هناك ما بقي الخصر، اليد التي تشدك بينما أنت متأخر بخطوتين عن إيقاع المشي، اليد التي تحافظ على درجة حرار العجين، التي تخفي بها جزء من وجهك عندما تغمرك ضحكة أو تفرك بها عينيك لترى الساعة على صوت المنبّه، اليد التي ترسم بها طائرا في الجدار عبر الظل، التي تساعدك في التسلّل إلى قميص من تحب، أو تخبئها في شعره، اليد التي يعقد على أصابعها الأصدقاء وعودهم، أو يتبادلون بها سجائرهم، اليد التي تخرجها من النافذة لتُعاكس تيّار الهواء وتصافح ذلك اليوم الرائع.

١٠ أسباب تضمن لك أن أختك لن تهرب مع عشيقها …

يخشى كثير من الرجال اللُّطاف من أي دعوة لإنصاف المرأة وتحقيق الكفاف في عيشها، فضلا عن أن يتحقق لها التمكين والاستقلال، دون أن يخجل من تحقيق الاستفادة القصوى من راتبها أو طريقتها في تنظيم الفوضى من حوله سواء كانت أمه أو أخته ذات التسع سنوات، كثيرا ما يتصرف الرجل من هذا النوع كما لو أنه فرد في قطيع فرس نهر مهدد بالانقراض، ذكر فرس النهر الذي لم يفهم العلماء حتى الآن النمط الذي يقرر فيه أن يعيش في مجموعة، هل هي المصالح أم الصراعات؟ لكنه مع ذلك يمارس حياته ففي الوقت الذي لا يقضيه في التمرغ في الوحل والانغمار في الماء، تجده يستولي على الإناث ويقاتل الذكور الآخرين قتالا عشوائيا، بنفس الطريقة يتصرف الرجل الذي يخشى من تمكين المرأة عندما يقابل رجلا يفكر بطريقة مغايرة، يشعر أنه معرّض للانقراض وأن عليه أن يقاتل هذا الرجل الذي يؤمن بحقوق امرأته، ولكنه في النهاية مجرد رجل مذعور غير قادر على الذهاب لأقصى المعركة، سيكتفي باتهام الرجل الآخر في أخلاقه وأن المرأة ( أخته، أمه ..ابنته .. ) إنما تريد أن تهرب مع عشيقها بمجرد أن تُمكّن، شخصيا لا أنظر بعدائية لهذا النوع من الرجال المذعورين، لأنني لا أشعر بالتهديد منهم بقدر ما أجد موقفهم ساخرا، وهذه مجرد محاولة لتذكيرهم بعشرة أسباب أساسية أضمن لهم فيها أن قصة هروب أختك مع عشيقها لن تحدث:

  1.  أنت لستَ فرس نهر.

  2.  … ربما كثيرا ما تتصرف مثله، لكنّك لست فرس نهر.

  3. أنت مُمكّن من خيارات حياتك الأساسية، لكن – كما تلاحظ – أمّك ستزوّجك فتاة مجهولة رأتها في حفل زفاف وأنت ستفرح وستزين سيارة مستأجرة بالورود، عادي يعني!

  4.  أنت لم تهرب مع عشيقتك، كل ما تفعله هو إزعاجها بطلب الصور.

  5. أنت تكتفي بصورة لطرف اصبعها، أختك لن تعشق رجلا من صورة لطرف اصبعه.

  6. الرجل الذي تعتقد أن البنات سيهربن معه على الأرجح لديه سكس باك ويتجاوز معدّل طولك، هذه مشكلتك العميقة معه، ليست أفكاره، اعمل رجيم وسكوات وستكون أمورك زي الحلاوة“.

  7. سابعا: أنت – حتى الآن – غير قادر على الخروج من بيت والدك، الذي يدفع أقساط سيّارتك، وسيدفع تكاليف زواجك، وعلى الأرجح قام بشتمك مرات عديدة أمام الضيوف، لكنك مع ذلك لم تهرب.

  8.  اترك المرأة الغربية في حالها، لكن إن كنت مصرّا على جعل أختك ملكة، الملكة تحصل على عقود ألماس، تفضّل تسوّق لها من هذا الرابط

  9.  عندما تتعرض الفتاة للاغتصاب والتحرش والتعنيف والحرمان من تقرير المصير ستقرر أن تهرب، أنت رجل شاطر لن تفعل لها هذه الأشياء السيئة، لا تخف.

  10.  عدد خرّيجات الجامعات والدراسات العليا للفتيات في السعودية متفوق على الرجال، ويحققن عوائد مادية وظيفية رغم كل الظروف، صدقني لا يوجد فتاة سعودية تريد الهروب مع رجل سعودي يكلمها من شريحة جوال غير مدفوعة.

ختاما، أنا حقيقة أحاول تهدئة روْع أي ذكر يشعر بالتهديد بالانقراض، إذا لم تجدِ معك يا صديقي هذه النقاط، اصنع لك صديقا تخيليا على شكل دبدوب أو باربي مثيرة – كما تحب اجلس مع صديقك التخيّلي وفضفض له عن مشاكلك، سيساعدك ذلك على الاسترخاء، أو اتصل على حليمة عندما تكون على الهواء مباشرة، كُن خلّاقا، شكرًا لك.

ما يمكن ألا تتمنّاه في عيد الميلاد

تقول سحر عن أعياد الميلاد، أنها ” أكثر فكرة كوميدية، فالحمدلله الذي جعلنا أكبر من كده” ، سحر عبيطة طبعا، لكنني أذكرها هنا لأننا نتشارك ذات اليوم، وأعتقد أن ولادتي وإياها في نفس اليوم، نفس الشهر، أحد صور الحضور الكثيف لهذا العالم، وهذه مجاملة، لسحر طبعا! تخيّل أن تحاول التملّص من الفكرة كليا، ثم يأتي آخر ليُلصقك في نصّ عيد ميلاد، أعتقد أنني هنا أودّ الحصول على صورة سِلفي مع الستّ سحر التي تريد أن تكون ” أكبر من كده ” … 

أحبّ نوفمبر، وهذا يبدو هزليّا لأنني أؤمن بأن الوقت وحدة لقياس المسافة لا الزمن، وعندما أشعر أن يومي سيء، أقرر أنه انتهى وأن اليوم التالي بدأ حتى لو كان ذلك في منتصف النهار، وأعتقد يقينا أنني – ككل شخص آخر – أملك الحق في إعادة تشكيل مفهوم اليوم، مع ذلك أحبّ نوفمبر، الأشياء الجيدة اعتادت أن تحدث لي في نهايات العام الميلادي، اكتوبر كان “راجل طيّب” وهذا الأسبوع من نوفمبر كان أشبه بباقة زهر، وهذه موافقة غير محسوبة، لقد صدف فحسب أنني قررت الانتهاء هذا الأسبوع من عدة أمور معلّقة، ونجحت.

لستُ ممن يتمنّون للعالم السّلام، كشخصٍ تنافسيّ قَلِق، يشتم كثيرا أثناء لعب البلايستيشن، ويتحمّس بعدائية لفوز فريقه الذي بدأ بتشجيعه بعد انتهاء نصف الدوري، فإن فكرة السّلام تبدو مملة بنفس الدرجة التي يتناول فيها صديقك الفيجيتيريان طبقه البارد، وبنفس الطريقة التي يخوّفونك بها من أكياس البلاستك، البشر أكثر الحيوانات خطورة، يقررون فجأة حماية الكوكب من الورق غير العضوي. هذا غير مهم الآن.

كما أنني لا أستطيع أن أتمنى لأطفال العالم بيئة أفضل، أو أن يتوقف تشغيلهم، المخلوقات المتكاثرة التي تجعلك تندم على بدء مناوشتها أو ملاعباتها، لأن لديهم قدرة غير معقولة لتطوير الموقف إلى ضربك وسحلك وجمع شعرك في كفوفهم الصغيرة، ثم يكون عليك أن تتصرّف بشكل حضاري وتقول بهدوء مفتعل: معلِش يا حبيبي .. روح لماما! ثم تلتفت للماما لتخبرها أن هذا الكائن لطيف و “ياحليله!” أطفال العالم بحاجة إلى منحنا نحن بيئة أفضل، نحن الذي بدأنا اللعبة بنوايا حسنة. الأمر ينطبق أيضا على الكبار. بالتأكيد.

*

عندما يقولها سيّد دوريش ” تلوم عليّا إزايّ يا سِيدنا ” فإنه يعبّر عني فيما يمكن أن أسميه الجواب الذهبي لأي سؤال يحمله زائرو عيد الميلاد، وإذا استدعى الموقف، فـ ” كل ده كان ليه لمّا شفت عِينيه” هو جواب احتياطي. وعندما يسألني أحدهم عمّا أتمناه، فإنني لا أستطيع الإجابة، لم أعتد على حمل الأمنيات بخفّة شعلة شمعة، لدي أهداف أعمل عليها، وخطة، وخطط لهذه الخطة، وخارطة طريق وصفّارات إنذار ومخارج طوارئ، وأكثر من طريقة للإنعاش، إما أفعل كل ذلك، أو لا أفعله، لا يوجد منطقة وسطى لمجرد الأمنيات، بينما أعمل بلا توقف يكون السؤال/الإجابة واقفا مستندا على جدار غرفتي، مشبّكا ذراعيه ” كل ده كان ليه؟ ” … وعندما تتقاطع أعيننا أردّ:

معرفش ياصحبي!

*

منذ اليومين الماضيين، تلقيت عدة هدايا، وهذه العبارة ستجعلك تشعر أن هناك قطارا ورديا من العُلب المغلفة والكثير من الشرائط الوردية الطائرة خلف هذا القطار السّريع المتوجّه إلى بيتي، حسنا .. ليس كذلك بالضبط، هذه مبالغة أخرى، ولأنني شخص يحتمل مزاجه أن يستمع من الستّ وحليم إلى تايلر سويفت، مرورا وسكنا عند ” أبو نورة” سيكون لدى رفاقي قائمة طويلة من الخيارات المتضاربة التي هي أشبه بحقل ألغام. 

وأنا أنظر للرقم المشتعل فوق كريمة الشانتيه، يخطر لي أن النّاس يكبرون بطريقتين: التعتيق، والذبول، ولا يوجد طريقة ثالثة، ثم يخطر لي أيضا أن الذبول ليس خيارا متاحا

*

 https://soundcloud.com/manalsmood/likes