يقف أبو ناجي على الطريق حاملا حكايته، يتوقف له أبو محمد بسيارته، ويعرض عليه “توصيلة” مجانيّة.. تبدأ الحكاية:
“-أبو ناجي: لو ناجي الحين موجود كان هو كبرك(… ) ناجي مات…
-أبو محمد: (… ) ولدي ضاع مني في الحرم قبل أربع سنوات (… ) مالقيناه
-اشوا إن ولدي مات ماضاع!
-صحيح. أحيانا تفقد الشيء مرة وحدة أريح لك!”
كم مرّة ظننتَ فيها أنك بطل القصّة الأكثر فرادة في العالم؟ تجربتك الاستثنائية في مصاعب الحياة أو مباهجها التي تحكيها بأكثر الألفاظ تأثرا، حتى اصطدمت بغريب يقول لك: “أعرف ذلك، لقد حدث لي أيضا!” ها قد أحرق فلمك، وأفسد عليك شعورك اللذيذ بجدوى ما كان يحدث لك، إذ لم يكن يحدث ليميّزك، فهناك دائما شخص ما “حدث له ذلك أيضا” ، شعور بالخيبة يعتريك لأن معناك الخاصّ تم تكراره، ومن يدري.. ربما تم اقتباسه، وكل ما حصلت عليه هو نسخة مقلدّة أو مستعملة من حكايات الآخرين. ذلك هو دفء المواساة … إننا جميعا نختبر ذات التجربة البدائية للحياة، مهما اختلفت قصصنا، تباغتنا ذات الأسئلة، نشعر بذات الهلع، وكل ما نبحث عنه هو دفء المواساة، لا يعود مهما إن كنت أحمل قصّتك أو قصتي، إن كنت البطل أو لا أحد. المهم هو أننا جميعا متورّطون.
في فيلم “فضيلة أن تكون لا أحد” القصير، لبدر الحمود، شعرت بتلك الورطة، المواجهة التي نتقنّع خلف اسم مستعار أو وجه غريب قبل أن نخوضها ونعدّ أنفسنا شجعانا، أمام سؤالات الحياة الأولى، الخوف، الفقد، السعي للتشافي، والغرابة التي تفاجئنا بها ذواتنا، الورطة التي لا نعود بعدها قادرين على التظاهر بأننا نفهم ونعي وننسجم، وينكشف هلعنا المركّب جرّاء بساطة الحدث، حيث المحور هو القصة، لا البطل الذي هو “لا أحد”.. ستشعر في هذا الفيلم أنك “لا أحد” في حفلة المواساة هذه.وقبل أن يفلتك الحمود في ختام الفيلم.. تسمع : “أنا راجع أشوفك” ينقذك بها طلال ليهدئ من روعك إلى حين تكتمل أسماء الممثلين…
“أبو ناجي -عن زوجته- : ما أذكر كيف عشنا أربعين سنة وكيف ربّينا البنات، بس أتذكر أشياء صغيرة وماهي مهمة زي لما مرّة طاحت من النخلة.. وضحكت عليها”
●هندسة الفراغ
يعرف مصصمو الديكور أن للفراغ مركزيته الجمالية، و-شخصيا- عندما أصمم سيناريو ما، فالطريقة التي أفكر فيها هي ترتيب الكلمات داخل الفراغات. الفراغ/الصمت هو الأصل، الكلمات هي الموقف الطاريء، بالنسبة لي تنتهي المخاطرة بالفراغ ببيع السيناريو للعميل، بالنسبة للحمود – ولأي مخرج- تبدأ المخاطرة في اللحظة التي يتوقف فيها الممثل عن الحديث، في معالجة الصمت، بحركة الأشياء، وأصواتها، ملامح الممثلين. استطاع الحمود أن يُخرج من القدير إبراهيم الحساوي مالم يخرجه في أكثر مسلسلاته، وأن يكشف لنا وجها بديعا للحساوي لم نره من قبل، مستغرقا في الواقعية…
قرأت مرة حديثا للمخرج والسيناريست مايكل هانك -(رابط لمشاهده الفراغيّة) – يقول فيه: “إنني أقترب من الواقع لأصوّر تناقضاته، على السينما أن تكون واقعية عوضا عن أن تكون حالمة!”، هانك الذي قاد ممثلته (إيمانيويل غيفا) نحو البافتا لأفضل ممثلة بفضل استغراقها في واقعية الصمت في فيلم الأوسكار (Amour). ففي عالم نقوم فيه بتعديل وتحسين حتى صورنا اليومية لتظهر بشكل حالم، يكون الفن هو ممارسة الواقعية التي يهرب منها الجميع، أصوات الشارع وحركة السيارات عوضا عن الموسيقى، كاس كرك عوضا عن كوب ستاربكس، مطعم هندي في شارع مكتظ بالعمالة الأجنبية عوضا عن فيلا مذهّبة، تلك كانت اختيارات الحمود في الفيلم التي أعتقد أنها موفقة جدا. فيلم سعودي “شرقاوي” بامتياز. وعلى الهامش أقول: أحترم الرجّال الذين يحملون قُراهم على أكتافهم أينما رحلوا. لا أشك أن الحمود كان يريد أن يقدم للعالم خارطة مدينته، محلاتها البسيطة، شوارعها، وأن يقول: أنا من هنا. باعتبار بيئة الفيلم. ربما سيكون إظهار هذا الانتماء الدافئ ثيمة للحمود، من يدري؟ إذ ظهرت منذ أول فيلم شاهدته له (مونوبولي-2014).