Author Archives: منال
عشرون يوما من التدوين| 01 : أهلا نوفمبر
أهلا نوفمبر، شهر الكتابة
كثيرا ما شكونا كمدونّين من تمزيق الأفكار تحت عجلة ١٤٠ حرف أو عشر ثوانٍ مسجّلة أو صلبها في مقال في جريدة، أو ورقة مؤتمر فيها من الارتجال الكثير، كلّ ذلك رائع، لكن تظل نكهة التدوين معتّقة ، وددت أكثر من مرّة ممارسة التدوين اليومي لفترة محددة، شهر نوفمبر ليس هو أفضل خيار من ناحية الوقت، لديّ في الأسبوع الأوّل منه على الأقل ١٢ موعدًا، وقائمة معتبرة من المهام، ديسمبر مفرّغ تقريبا، لكنّ هذا الشهر هو شهر الكتابة كما هو معروف على أيّة حال، كما أن الضغط سيرفع من مستوى التحدي الشخصيّ ” كما أتوقّع! “
لا يوجد إلتزام موضوعيّ ، كالعادة أدبيات وهرطقات وتأملات وبعض المواد التخصصيّة، ربما يوميّات؟ ليس لدي تصوّر مسبق عمّا سأكتب، لكنّني أتصوّر حاجتي للكتابة، كما أنني على الأغلب سأنشر المسوّدة الأولى كما كنتُ أفعل، المهم لديّ هو فعل الكتابة ذاته.
بسّطت شكل المدونة أكثر، ألغيت خيار البحث في قوقل، مزيد من التركيز والهدوء …
مرحبا! أنا تائه مثلك.
… يحدث لي هذا أيضًا، الوقوع في دوائر تيه مباغتة، في البدء أحاول البحث عن أقرب مخرج وعندما لا أجد، أبحث عن أيّة لوحة، ثم عن أيّ تائه آخر يقاطعني المسافة، لا ظِلال ولا حتى صدى، في الأخير على أهبّة اليأس، سيبدو أيَّ شيء يلوح كما لو أنه علامة نجاة فسفورية عليّ أن أثق بها لأنني لا أملك خيارا آخرا، وعندما أثق ثقةَ الغلبان! تختفي تاركة وراءها علامةَ لغزٍ آخر مُربك أكثر من كونه مثير.
يحدث لي هذا أيضًا يا صديقتي، أن أرى الطريق طريقي بعينيَّ وبقلبي.. لكنّ أقدامي تنكره وخطواتي تتمرّد عليه، لاأفهم شيئا مثلما أنتِ لا تفهمين شيئا الآن وتعتقدين أنني علامة النجاة الفسفورية، تثقين بي فأمنحكِ هذا اللغز المُربك، أنا آسفة.
يحدث لي أيضا أن أُذهل كيف أمكن لكل تلك الخطوات الراسخات أن تتغرّب، أن تضلّ، أن تنطوي في حين يفرد الطريق… ذات الطريق كلّ اتجاهاته، أبحث في وجوه أصدقائي عن عنوانٍ فرعي يمكنني من خلاله إلهام نصّي المسترسل في الدوران، أو عن نقطة يمكنني سحبها لإنهاء النصّ، أو لإلهاء المخيّلة، لكنهم يبدون حينها كما يبدون كلّ يوم، متململين أو واعدين، أرى وجوههم بعينيَّ وبقلبي وملامحي تنكرههم، يحدث لي أيضا أن أضلّ في الطريق، أن أظلّ في وجوه رفاقي، يا ليلى.
يحدث لي أفتح دفتر المهام، دون أن أستوعب نفسي في اللحظة التي ملأت فيها الدفتر أسطرا مرقّمة، مَن هذا الذي كتب هنا؟ من هذا الذي يهتم كثيرا؟ من هذا الذي يرى ما يريد بقوة رؤيته لما لا يريد؟ ما كل هذا الوضوح المُريب الواقف في وجه هذا التوهان المتنمّر؟ فأُحيل تلك المهام إلى مصطبة الضمير المزعج، لتستريح هناك كصبّارة معتادة على فوات السُّقيا.
يحدث لي يا صديقتي أن أتوقف تماما عن محاولة الفهم، فكل محاولة تستولد المزيد من الأسئلة، لطالما أحببت الأسئلة التي تمنحني احتمالاتها احتمالات عدة للتبرير، غير أن أسئلة التيه كأذرع أخطبوط غادر، شرسة، مغروسة في رأس جواب واحد ورديفه: لستُ أدري… لستُ أدري!
دعيني أخبرك أن ما يحدث لكِ، يحدث لي، ويحدث لرفاقنا المتململين ورفاقنا الواعدين على حدّ سواء، كما ترين أنا لا أملك خارطة طريق، لكنني أؤكد لك أنني ذلك التائه الذي يقاطعك المسافة لكنك ولسوء الحظ – مثلي- لن ترينه، لا ظِلاله ولا حتى صداه، إنها إحدى تغلّبات الوجود علينا، إحدى شهواته في استصغارنا كلما تعاظمنا في حيّزنا الوجودي الضئيل، كلما أصبحنا مهووسين بالانتصار والمرح استفززنا تنمّرات الوجود التي يعادل بها هوسنا بهزيمة تيه وتعاسة علامة نجاة موهومة. استرخي يا صديقتي، توقفي عن البحث عن حلول، استرخي تماما، شاهدي ست ساعات متتالية من أفلامك المؤجلة، اهربي إلى عاداتكِ الغذائية السيئة التي تركتيها بجهد، اشربي الكولا وكُلي بطاطس مقليّة في منتصف الليل، استرخي تماما، حادثي رفاقك أحاديث غير مترابطة، تناغمي مع التيه، اسمحي له أن يكسب الجولة، تناولي هذه الجرعة المُرّة من الهزيمة! اهدري الوقت بكل الحماقة التي تحوزينها منذ مراهقتك، دعي الصبّارة هناك دون قلق، سيحدث ودون سابق تنبيه أيضا أن تتوقف شراهة الوجود الغامضة، ورغم أنني أعرف – كما تعرفين- أنها ستعود، لكنّ الحماسة الوليدة لخطواتنا ووجوه رفاقنا ودفتر المهام ستنُسينا قلق الترقّب، ستجعلنا نُنكر أننا نُهزم، من جديد!
اثنا عشر لونا
تطوي ثمان كنزات صوفية بشكل متتابع وآلي: الكُمّان للخلف، طيّة المنتصف، تهذيب الياقة، وتفكّر باستغراق موازٍ: حبيبان للخلف، طيّة منتصف الطريق، تهذيب ياقة النهاية… التي بعدها: مُقابلتا عمل، طيّة منتصف الدوام، تهذيب نهاية اليوم، … وهكذا كآلة كادحة لا تحب أن تتوقف.
كنتُ أسترخي على صوفا ليّنة وأتأمل صديقتي في انغماسها مع الكنزات، إنني أملك كامل الحق في تخيّل الأفكار التي تدور برأسها، أنا– بعبارة أخرى– أحب استعارة رأس صديقتي هذه تحديدا في تعليق الأفكار التي لا يرحّب بها عقلي، وأعرف أنها لا تمانع، في إحدى المرات اندفعت وبدأت أجادلها في فكرة علّقتُها داخل رأسها، كنت أعارضها، وأخذتني على “قد عقلي” واستمرت في مجادلتي حتى اتّهمتها أخيرا: مخّك تعبان! فقالت لي بهدوء: طيّب، سأصلح الأمر.
كنتُ أحتاجها أن تطوي كنزة تاسعة، لأن الأفكار استمرت في استرسالها وسيقلقني انقطاعها، كنت تحت رحمتها، وكنوع من انقاذ الموقف، رميتُ نحوها فوطة صوفية لتقوم تلقائيا بتوضيبها، لكنّها قالت: لا، يكفي انشغال، علينا أن نجلس معًا الآن، هزمتني ابتسامتها فلم أشأ أن أخبرها أنني كنتُ بالفعل جالسةً معها وأن مخّها التعبان مسترسل الأفكار التي – وياللورطة!- سيكون عليّ أن أساعدها في التخلص منها.
– أخبارك؟
– عندكِ أوّل بأول.
– لا بأس احكيها مرة أخرى.
يعتقد كثيرون أن الفتيات يجتمعن للحديث عن الموضة وعن الرجال الوسيمين، ونحن نفعل ذلك بالفعل، لكنه ليس كل شيء، في بعض الأوقات لا نجد ما نتحدث عنها سوى أن نعيد جرد أحاديث سابقة مع إضافة بعض التعليقات الجديدة، وهذا لا يقل متعة عن خبر جديد وحصري، نحن نستمتع بكوننا نتحدث مع من نحب وليس بالموضوع الذي نتحدث فيه، صديقتي وأنا – على الأقل– نُعرف بصمتنا الطويل في خارج هذه الثلاث ساعات التي نتقابل فيها كل أسبوع، لذلك أشعر أنني على موعد مع حفلة حديث
– تم قبولي في الوظيفة..
– ممتاز!
– لا مش ممتاز! كنت أريدها بشدّة قبل أربع سنوات لكنها تأخرت، وحضرت باهتة.
– “ادّيها ألوان يا بنت!”
– أقضي حياتي تلوين؟ لا، المهم رفضتها.
– الليلة الماضية لم ينتهِ تحميل الفيلم إلا قبل دقائق من موعد دوامي، رغم أني كنت جاهزة طوال الليل لمشاهدته، المهم رفضت مشاهدته.
– نفس الشيء! في غمرة تحاشينا أن نفقد ما نريد، ننسى مناورة التوقيت، ننسى أن قضيتنا هي أن نحصل على ما نريد في الوقت الذي نريد، وليس أن نحصل عليه بأيّة حال!
– خيرة؟
– أنا لا أؤمن بالخيرة.
– ولا أنا.
– التوقيت الصحيح هو الخيرة.
ناولتني قطعة كوكيز كتأييد غير واعٍ ثم تابعت بحماس:
– اكتمال الفيلم قبل دقائق من بدء الدوام، سفرك لمدينة حافلة بعد انتهاء الكرنفال، الردّ على رسالة دفنها اليأس، انتباهك لكأس الشّاي بعد أن يعود ثقيلا وباردا، دخول..
– دخولك مدينة الألعاب في الخامسة والثلاثين، شراء فستان في تصفية التخفيضات.
– يعتبرونها “ديل” بالمناسبة!
– نفسهم الذين تفوتهم مناورة الوقت، لا تعني لهم المواسم شيئا فضلا عن فكرة “أريده الآن وبأيّ ثمن” كنت أريد تلك الوظيفة وبأي ثمن، كانت لدي رغبة مجنونة في المكتب المطل على الشارع العام، عرضوا عليّ نفس المكتب بالمناسبة.
أخدتْ جوّالها بابتسامتها المنتصرة ذاتها وأردفت: أرسلتُ لك رابط حسابه.. تابعيه، ثم انغمست في شاشة الجوّال، تكتب وتبتسم وتكتب وتبتسم عدّتُ إلى استرخائي، وبدت لي كآلة كادحة مرة أخرى، تأملتها من جديد، بدأتُ استعارة رأسها، أردت تعليق الفكرة التاسعة التي أقلقتني، لكنني وجدتها باهتة.
أحبّني في المساءات المكررة في تِرس الرتابة، في نهاية الأسبوع عندما يتأخر طلب العشاء، في يوم الدايت المفتوح، في العشر دقائق قبل يوم عملٍ مرهق وعندما يتعرّج خط الآيلاينر بفعل رمش مفاجئ، أحبّني عندما أرغب في التضجر من حرارة الشمس “الحارّة ككل يوم، أعرف!” ، وسأحبك بين شوطي مباراة ناديك الصعب، بعد انتهاء التحليل؟ طيّب، أو عندما لا تجد موقفا لسيّارتك وترغب في شتم الرصيف والزحمة وجارك ورجل المرور، سأحبك بقدر المسافة بين مكتبك ومكتب مديرك عندما يريدك على عجل ويمدّها قلقك، أو عندما لا تصوّت أغلبية رفاقِك على المطعم الذي ترتاح فيه، عندما ترغب في الشكوى من أمّك، أو عندما ترغب في خوض مشكلة اعتباطية…
الحب هو لهزائمنا اليومية الصغيرة، لوقت المنافسة على طاولة بلياردو، لممارسة شغف المناورة..
أما هزائمنا الكبرى – تعرف- أننا نستطيع مواجهتها كأبطال عُزّل لديهم من الجنون ما يكفي لحرق بابل، ومن الشجاعة ما يكفي لتمضية الموقف بكرامة،
هزائمنا الكبرى هي تجربتنا المباشرة مع وجودنا، هي أمر أشد خصوصية من أسرارنا المهموسة منذ الصفّ الرابع، هي حُبنا “الفرداني” الأعظم.
إلى: لئيمة…
تبادلاتا حديثا مقتضبا كان يفترض أن يكون وفق سيناريو مفصّل لكن كانت جدية الحديث تفوق عفوية المكان الذي جلستا فيه، على درج مبنى شركتهما ..بدتا كمراهقتين تحاولان تسوية الأمور بارتجال ما أمكن على درج المدرسة، انتهى الحديث كما ينبغي:
- عندما أعود إلى البيت غدا سأتصل بك، أفضل؟
- أفضل.
بالفعل جرى الوعد كما هو مفترض، حيث لم تتمكنا من الارتجال مجددا والثرثرة عبر اتصال، عادتا إلى الكلاسيكية المنتظمة، ما كان لها سوى أن تكتب:
” تذكرين أنكِ سألتِني بالأمس: تعتقدين أنني مجنونة؟ وضحكنا على مجرد طرح السؤال، رغم أننا نعرف أن الإجابة هي: بالطبع! وأنا أيضا!
كلنا يا صديقتي يقف في لحظة أو تُوقفه تلك الحظة لتشعره على نحو أكيد وصارم أنه لم يعد مناسبا للسياق، أن الأمور تجري معه وفيه على نحو لا يبدو منطقيا، ولأننا نملك إحساسا مضمورا بالانكسار أمام الحياة فنحن نذهب تلقائيا نحو التصديق بأننا بدأنا نفقد عقولنا، ذكاءنا، حِسّنا الفُكاهي..أي شيء، المهم أننا نضع تفسيرا يحفظ لنا كرامتنا أمام هزيمة تلوح بحيث تبدو أنها قد حدثت “بطبيعة الحال!؛ فكيف لك أن تلوم مجنونا كان لا بد أن ينهزم؟ نحن نعرف أن هذا السيناريو أجمل بكثير من أن نعترف أننا هُزمنا بكامل قوانا العقليّة، بكامل ذكائنا، بكامل حسّنا الفكاهي.
بدلاً عن ذلك، أخبرتكِ أنه هو المجنون، وكأن ذلك سيحدث أيّ فارق، لكنني – وبطبيعة الحال أيضا!- أحب أن أشتم من يُغضب رفاقي، بدون مناسبة، تعرفين أن الأمر منتهِ بينكما مسبقا وأنكِ لم تكوني تستشيرينني بقدر ما أردتِ مني أن أتآمر معكِ في خلق الصياغة النهائية لما حدث بينكما، تلك الصياغة التي ستكون الختم الشمعيّ للحكاية قبل إقحامها في ذاكرتكِ، تعرفين أنني أُحسن ذلك، إلى درجة أنني أكتب إليك الآن.
دعيني أخبرك، لقد أحببتُ رجالا سيئين، سيئين للغاية، وكانوا أغبياء بما يكفي لأن أتمكن من رؤية نهايتي معهم منذ البداية، لكنني وعلى الرغم من تلك الرؤية، كنت أستمر، بل كنت أقع في غرام تلك الرؤية حرفيا، كان وجود النهاية يحفّزني على الاستمرار، كان حضور النهاية وعلى نحو غريب..يطمئنني، إنني ممتنة لهم على منحي ذلك الأمان القطعي. وعندما تحضر النهاية كان العذر جاهزا، ومغلّفا كهدية عيد ميلاد مكشوفة بطاقتها: “لقد انتهينا لأنكم بذلك السوء!” لطالما أخبرني أصدقائي أنني أبدو أجمل وأكثر حيوية بعد كل انفصال، وكنت أعرف أن ذلك يحدث بالضبط لأنني أحب إنهاء ما أقوم به، أحب أن أنجز المهام وأنشئ قائمة مهام جديدة. هذا جنون، وهذا لؤم أيضا، أعترف. لكنكِ لئيمة كذلك، وتفهمين أن مسرحية الانفصال التراجيدية هذه ستنتهي بكِ وأنتِ تبدين أجمل، وأكثر حيوية. دعينا نتفق مبدئيا على وصف الجنون المجازي لما نقوم به، إننا نزهد فيمن يرغبوننا بشكل جديّ وقطعي لأن رائحة الأبديّة تفوح منهم، تلك الرائحة التي تشبه الموت، تشبه الأبيات الشعرية اليائسة على شواهد القبور، تشبه حسابات الأدعية الوقفيّة، تشبه القيود الأبدية وفرقعة زرد السلاسل. إن كلمة الأبدية لا يمكن أن تثير في خيالاتنا صورة حدائق ونوتة هدير، أو أراجيح صدئة وأطفالا يضحكون، إنها لا تنسجم مع خبراتنا كأحياء لا يعرفون شيئا أبديا وصارما غير الموت، غير السلاسل، ما إن يشعرنا أحدهم أنه مستعد لاختراع أبديّة معنا، شعورا أبديا بالحبّ، أو فعلا أبديا بالعطاء والحماية، حتى تبدأ مفاهيم الحياة في ذاكرتنا بالدفاع عن نفسها، تصدر بيانها الصارم في كلمة واحدة: لا. إننا ندافع في مقابل هجمومهم الورديّ الأبدي عن كوننا أحياء، عن كوننا أحرار، عن كوننا قابلين للتغيّر والتحوّل والانتهاء، إننا ندافع عن رغبتنا المُلحّة في بدء قائمة مهام جديدة، في اكتشاف أشخاص جدد، في أن نكون متطرّفين في الصدق مع أنفسنا وصولا إلى أن يبدو كل ما سوى إحساسنا الجنونيّ بالتحرر هامشيا، إننا نختار أشخاصا سيئين للحبّ حتى لا نفرط في الإحساس بالذنب عند إعادتهم للهامش أو ما بعده. دعيني أطمئنك من هذه الناحية، من ناحية أننا لسنا أغبياء إلى درجة أننا لا نعرف ما نختار، ندّعي ذلك أحيانا، لكنه ليس الحقيقة، إن معرفتنا تلتف علينا في أحيان كثيرة، لكننا نعرف.
يوما ما لن نتمكّن – أنتِ وأنا– من لمّ الأمور على هذا النحو الصريح، ستسألين غيري، وعلى الأرجح سيفتح لكِ موالا عن الإحساس بالأمان، عن تجاربك المبكرة مع والديكِ، عن ذلك النموذج الذي سيسمّه الفطرة، ماذا أيضا..؟ عن مثلث الاحتياجات، عن سلّم الضروريات، عن أشياء كثيرة يا صديقتي يحاول بها أن يفسّر لك شعور الانعزال عن السياق، سيسمّي ذلك اللؤم اللذيذ بسوء إدارة الأزمات، سيسمّي أحبائكِ السيئين بأخطاء في الاختيار، ويسمّي ذلك المثقل بالأبدية “الشخص المنشود” سيبدو كل ذلك صحيحا وعقلانيا، ستشعرين لبعض الوقت بما يسمّونه سلاما داخليا، سأؤيدكِ لأنك ستحتاجين ذلك، ولكن أريدكِ أن تعدينني أنكِ ستظلين مؤمنة بأن كل ذلك مجرد لعبة مرحليّة، وأنكِ – في نهاية المطاف – مجنونة.
رسائل قصيرة جدا… إلى أصدقاء المكان ( 2 )
إلى:
الكتاب الذي لم أعرفه بعد: دبّر لنا صدفة.
الكتاب الذي اشتريته ولم أقرأه: ماكان العشم!
الكتاب الذي أحرجني بفكرة: عقلي مليئ بالوشوم.
إلى الكتاب الذي رميته: لا يصلح العنوان ما أفسده الفهرس.
إلى رفّ مجموعة الكتب التي تحوي تواقيع الرّفاق:
قناني عطور، لا يمكن أن تختلط روائحها، اللافندر لافندر، والعود..عود.
إلى:
لوحة “الحضن المجّاني” : حضنوا الشخص الخطأ، لم يحضنك أحد.
إلى:
لوحةِ المفاتيح الجديدة: ستفهمين مع الوقت الفرق بين رعشة إصبعي وبين رغبتي في الضغط على الزر المجاور.
رزمة الخطوط الجديدة: أين خطّي؟
إلى:
الوييتر الذي حفظ معايير قهوتي ومقاس الكرواسون: تفوّقتَ على صديقي.
إلى كيس السكّر الصغير الزائد دائما: قدّم استقالتك واحصل على وظيفةٍ أخرى.
إلى غُرّة الحُلوة التي تجلس أمامي كلّما رفعتها عادت ورفضت أن تغادر جبينها: أدعمُ قضيّتكِ بالكامل.
إلى السيجارة المركونة للسيّد الأنيق المشغول بآيفونه: احترقي صبرًا، وَجدًا، وحنينًا . الله بعونك يا ستّ!
إلى الكرسي المجاور الفارغ: ماذا لو؟
رسائل قصيرة جدا… إلى أصدقاء المكان ( ١ )
رسائل قصيرة جدا… إلى أصدقاء المكان:
صديقي خطّ الضوء النافد من حافّة الباب كطلقة قنّاص محترف: لم تقتِل الظلام.
صديقي الظلام: ندبةُ الضوء … شرفُ محُاولة.
صديقي المقبض البارد في قلب الباب: شكرًا! القشعريرة التي تمررها برودتك إليّ، تذكرني بشعور الدهشةِ القديمة لمصافحةٍ في وقت ضائع.
صديقي الباب: المواربة ليست خيارًا.
صديقي المفتاح: هل مازلتَ هنا؟!
صديقتي سمّاعة الأذن الصامدة رغم تلف الأخرى: أمتنُّ لتفهّمك كأخت كُبرى يفترض منها الجميع أن تكون بقدر الموقف!
صديقتي السّماعة الأخرى: أتفهم انسحابك، أنا لو كنتُ مكانك… لفعلتُ نفس الشيء.
صديقتي النظارة: أنتِ تتذمرين من غبش الرؤية من أثر البصمات أكثر مما تفعل عيني نفسها، مجنونة؟
صديقتي بصمة اصبعي الأوسط: تظنين أني سأخطئك؟
صديقتي القطّة التي تجلس على السّور كل يوم، كما لو أن السور عرشها الخالد: تجعلينني أفكر في جعل أسواري عروش.
صديقي السّور: هل تظنها فكرة جيّدة؟
صديقي باب السيّارة الذي لا أعرف حتى الآن قوة الدفع اللازمة لإغلاقه بدون أضطر للتأكد مرة أخرى: أنت التائه أم أنا أبالغ في الشك؟
صديقي الشّارع الذي يعرف من وقع الأقدام مآرب العابرين: كم تحمّلتَ من عبء الشتائم!