عشرون يوما من التدوين| 03: ساق البامبو

لماذا كان جلوسي تحت الشجرة يزعج أمي؟ أتراها كانت تخشى أن تنبت لي جذور تضرب في عمق الأرض…” * ساق البامبو

هذه التدوينة ليست مراجعة بالمفهوم المتعارف عليه، رواية ساق البامبو لسعود السنعوسي الأديب الذكيّ – وهو ذكي أظهر من كونه أديب- لا أعتقد أنها تحتاج إلى تعريف عند أغلبكم، الحائزة على الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) لعام ٢٠١٣، ولأنني تأخّرت كثيرا في التعرّف على الأدب الروائي العربي فقد حدث خطأ غير مقصود عندما بدأت مبكرا بقراءة الأدب المترجم العالمي، الذين وقعوا في مثل هذا الأمر يعرفون أن الذّوق الروائي يتطبّع بتجربته الأولى وسيصعب أن تقرأ رواية من حقل لغوي مختلف وإن كان عظيما، وأسمّيه خطأ .. لأنه كذلك فعلا، الوقوع في فخّ المقارنة بين أدب مترجم وأدب أصيل أيّا كانت انحيازات هذه المقارنة. لذلك كنت محظوظة عندما دخلت المكتبة ولم أجد الكتاب الذي أريد فقررت أن أشتري بالمبلغ أيّ كتاب لم أكن لأختره عادة (وهذه تجربة أقوم بها سأكتب عنها في الأيام القادمة) وكانت رواية ساق البامبو هي الموجودة على الرفّ.

سعود السنعوسي، أديب كويتي، والمجتمع الخليجي عموما نسيج متقاطع، ستجد الكثير من الصفحات كما لو أنها تتحدث عن أصدقائك وجيرانك وبالتأكيد عنكَ وعن عائلتك، ( نعم هذا سيشعرك بالخجل والتعرّي)  ينتقل ببطل الرواية هوزيه/خوسيه/جوسيه/ عيسى ( ونعم كل هذه الأسماء لشخص واحد!) ينتقل عيسى في أحداث حياته من خلال السّمة الأميز لمجتمعاتنا الخليجية وهي: القدرة الهائلة على المراوغة. يعبّر كثيرون عن هذه السمة بألفاظ مثل: ” النفاق الاجتماعي، لعنة النفط، التناقضات الفاخرة ” لكنني وبدقّة أختار لها سمة: المراوغة.
لا، ليست كما تتوقع، الرواية ليست عدائية بشكل مزعج، عيسى المولود لأم فلبينية وأب كويتي لن يشتمك ( على الأقل سيحاول ألا يفعل ) كما لن تجد نقدا مجتمعيا كالذي يكتبه كاتب مقال صحفي، سعود السنعوسي كتب الرواية كما لو أنّها مترجمة، وهذا فخّ وقعتُ فيه في أول الفصول، فالبطل لا يتحدث العربيّة وبالتأكيد لن يكتب لك رأيه في مجتمعك كما تفعل الصحف المحليّة، إنه فقط سيتحدث إليك من زاويته.

لكل منّا دينه الخاصّ، نأخذ من الأديان ما نؤمن به، ونتجاهل ما لا تدركه عقولنا، أو نتظاهر بالإيمان، ونمارسُ طقوسا لا نفهمها خوفا من خسارة شيء نحاول أن نؤمن به” * ساق البامبو

هذا اقتباسي المفضّل من الرواية، التي لو قُلت إنها مجرد رواية اجتماعية لبخست تجربتي معها حقها، بالنسبة لي لا تعنيني مراوغة المجتمع بشيء، الفكرة التي تقاطعت معها بها وأثّرت بي هي فلسفة الهويّة، بشكلها الجغرافي، الوطني، الديني، الذاتّي، أن تعيش بهويّةٍ على الحافّة لا يعني أنك بالضرورة مولود من أم أجنبية، أبدا! فأنت بين أهلك، وأهل أهلك ، وجلدك يشبّه تراب وطنك، لكنك ببساطة قد تنزوي في زاوية وروحك مغمورة بسؤال استنكاري لا يمكنك تجاهله: مَن هؤلاء؟ لماذا يتصرّفون على هذا النحو؟ سأفعل مابوسعي لئلا أتحوّل إلى واحد منهم! ففوق عدم الانتماء، أنت ترفض حقيقة أن تنتمي. ها أنت هوزيه/خوسيه/جوسيه/ وعيسى في نفس الوقت!

إذا استطعت أن تصل إلى هذا المعنى، فسأعرّفك على البامبو، صديقتنا الجديدة، هي شجرة غير منتميّة، “نقطع جزءً من ساقها نغرسه بلا جذور في أي أرض، لا يلبث الساق طويلا حتى تنبت له جذور جديدة، تنمو من جديد، في أرضٍ جديدة، بلا ماضٍ بلا ذاكرة …” هل أعجبتك؟ اطلبها أن ترسل صورة ستعجبك أكثر: )

شخصيا ليس لديّ موقف صارم من الجغرافيا، قلت هذا لأصدقائي، كنت أظن أنني سريعة التكيّف في أي مكان جديد، لكنني فهمت لاحقا أنني لا أنتمي إلى المكان إجمالا، فعندما أكون في مكان جديد لا أمرّ بمرحلة التخلّص من ذاكرة المكان السابق، لأنني لا أغرس جذوري، إنّني متأهبة على الدوام، ولا أعرف لماذا. لكنني أعرف أنني منغمسة في الانتماء للأفكار، إن كلّ مكان يعجبني، وكل شخص يعجبني، يتحوّل في ذاكرتي إلى فكرة، ولأنها فكرة فإنها مُعالَجة بالفَهم، فَهمي، وإذا عالجتها -فاسمح لي- ستصبحُ فكرتي! وبذلك أنقل اللعبة إلى أرضي وجمهوري، هذه حيلة أمارسها لسلب الأشياء الخارجة عني قدرة السيطرة عليّ، سواء كانت متمثلة في أشخاص أو أماكن ، وقبل أن تعتقد أنني ألعب بذكاء فالحقيقة أنني أفعل ذلك تلقائيا، دون وعي. وعلى عكس هوزيه الذي كان الانتماء لعائلته وأرضه ولغته ملاذه، فإنني أقرب إلى موقف إيريك هوفر عندما قال: ” الرغبة في الانتماء تُعتبر في جانب من جوانبها رغبة في فقدان المرء لجزء من ذاته” ، هذا ليس سيئا ولا جيّدا، بالنسبة لي أرى الحالتين محاولة للاتصال بذواتنا، إما بالدخول في عملية مقايضة لما هو خارجها كما يفعل هوزيه، أو بإدخال ما يهمّك من الخارج إلى ذاتك كأفكار حُرّة، كما أفعل أنا.

تدوينة طويلة؟ لحظة بقي اقتباس أخير:

اللجوء إلى الإيمان بحدّ ذاته يحتاج إلى إيمان” * ساق البامبو

One thought on “عشرون يوما من التدوين| 03: ساق البامبو

  1. Pingback: عشرون يوما من التدوين| 17: خطوتين خارج المنطقة الآمنة «

Comments are closed.