معروف أن الذكاء غير متفق على تعريفه بالتفصيل، لكن إجمالا متفق أنه عبارة عن قدرة عقلية يمكن تطويرها والتعبير عنها، قدرة على ماذا؟ هنا تحضر وجهات النظر المختلفة التي بتفكيكها ترى أن المشترك بينها تضمّنها القدرة على تحليل موقف وتكوين ردة الفعل المناسبة بشرطين: السرعة والدقّة. وصلت بعض البحوث في اكتشافاتها إلى تحديد أكثر من ١٥٠ قدرة عقلية متداخلة أو مستقلة لتصل إلى ردة الفعل هذه.
حتى نظرية الذكاءات المتعددة لغاردنر التي تحاول إرضاء الجميع، تبدو أقرب للتعبير عن معنى المهارة، وهو الجزء المطوّر من الذكاء أو نتيجته، المهارة تشترط أيضا: السرعة والدقّة.
علما أن الذكاء لا يكشف عن ذاته إلا في حالة المشكلات المستحثة، سأتجاوز التفاصيل مباشرة إلى الفكرة التالية المحددة
كيف يمكن أن يخدعك ذكاؤك؟ يتعامل دماغك مع نفسه كيميائيا ومعك بيولوجيا ومع البيئة من حولك بالذكاء، ثم يعود إلى التعامل مع نفسه مجددا ونفسك والبيئة بمحصّلة هذا الذكاء! هذا هو السطر الأكثر أهمية في المقال.
إن وجود عملية تكرارية ومتأثرة ونامية في مسار “كونك ذكيا” هي الطْعم الذي يرميه لكِ دماغك، والذي غالبا ما تستمتع به، كيف؟
النموذج ثلاثي الأبعاد: نشاطك العقلي يأخذ ثلاثة أبعاد: بُعد المحتوى | وهو المادة التي تعمل فيها المشكلة *محتوى بصري،سمعي،معنوي..إلخ* بُعد العمليات | وهو العملية التي تُعالج بها المشكلة تحت عوامل مثل: التذكّر،المعرفة،القياس التقاربي..إلخ بُعد النواتج | وهو يشبه عملية الأرشفة التي يقوم بها دماغك بعد العمليات، حسب تصنيفات نوعية مثل: الوحدات، الفئات، العلاقات، المنظومات (*: جيلفورد)
إن بُعد النواتج يعود بالتأثير على المحتوى فالعمليات ففي نفسه مجددا، ليخلق لك دائرة مألوفة من النشاط العقلي تساعدك على التصرف (أسرع وأدق ) بمعنى تساعدك على التمتع بكونك ذكيا! هذا ما يجعلك تتوقع النغمة التالية في نشاط سبق لك معالجته رغم إنه لم يدخل كاملا في بُعد المحتوى، قفزت فورا عملية التذكر والقياس التقاربي لتخبرك أنك تستطيع التعرف على النغمة التالية، وتهنئك على ذكائك. شخصيا؟ أنا لا أهنئك.
ولتعرف لماذا، اسأل نفسك: إلى أي حدّ يمكنك التدخل في هذا النشاط وإلى أي حدّ تسلبُك جودة هذا النشاط فرص التدخّل أو حتى قدرة التدخل، عبر تكوين أنماط تلقائية، تجعل معظم أفعالك واختياراتك ارتجالية أو بعبارة ديناميكية *أكثر ذكاء* ؟
الخدعة: إن انغماس نشاطاتك العقلية في دوائر ذكيّة مهم وضروري لحياة سلسة وطبيعية وهو ما يخلق الأفعال العفوية التي تساهم في جودة الحياة كأن تضرب رقم هاتف صديقك بالاعتماد على عفوية حركة أصبعك بدل التركيز على عشرة أرقام عشوائية، رقما رقما، في هذه الأمور أنت لا تشعر بالمشكلة، بل لا تحتاج للشعور بالمشكلة.ماذا لو توسّع الأمر بما يكفي ليخلق لديك عادات ومهارات سلوكيّة تبدو ذكية، ومادمت لم توقفها فهي ستستمر بالتوسع والانسحاب على مجالات متعددة، فمثلا نحن جميعا نلاحظ أن الحرفيين ينغمسون في ذكائهم المهاري خارج مجال الحرفة الأساسي، على طاولة عشاء سترى مصلّح الساعات والمهندس والعازف ولاعب الكرة يمسكون الملعقة بأربع طرق مختلفة ناتجة عن اعتيادهم على معالجة أمور حركية بذكاء عالٍ، رغم إن حمل الملعقة للعشاء لا يدخل في مجال أيّ منهم، هذه صورة مبسطة، الصورة الأكثر تأثيرا هي نزوحك لاختيار وظائف عملية أو تخصصا دراسيا أو حتى زوج وشريك حياة بناء على انغماسك في هذا الحال من الذكاء، وهنا تكون قد وقعت في المصيدة، طرحتُ على الأصدقاء سؤالا يجسد هذه المشكلة يقول: هل اخترت وظيفتك هذه لأنك ماهر فيها أم لأنك شغوف بها بما يحقق أهدافك؟ هل اخترت علاقاتك الانسانية لأنها تحقق أهدافك أم لأنها لا تجلب لك المشكلات فحسب؟
إن الأشخاص الذي يوصفون بالأذكياء غالبا ما يختارون وظائفهم وعلاقاتهم بشكل ديناميكي، أي لأنهم مهرة وأذكياء ويجيدون إنجاز المهمة، وهم يتوهمّون أنهم يعملون في وظائف يحبونها، ولو سألتهم لماذا أنتم موظفون أساسا لقالوا لك: للهدف المادي ولأننا نحب مانعمل ولذلك نحن ماهرون!
ما الذي يجعل شخصا ذكيّا لا يُدرك حقيقة بسيطة كهذه؟ حقيقة أنه لم يعد يفرّق بين ما يجيده وما يريده حقا؟ ما الذي يجعل الأذكياء يتصرفون بغباء متكرر؟ لأنه سمح لذكائه أن يسطو عليه، على رغباته، على الحقائق الأولية البسيطة، ذكاؤه الذي أدمن كونه تحت ضوء اهتمامه، خلق له أنماطا من التصورات والأحكام والقرارات فعالة لمدة طويلة لكن لم يتوقف فترة ليختبرها مجددا، لذلك ستستمر في تضليله وتدخله في دوامة التيه ودفعه ليلعب الحياة على المستوى الأصعب حتى وإن لم يكن هو المستوى الصحيح!
كُن ذكيّا… بالفعل! لا يمكنك أن تفكّ تلك السلسلة المترابطة لكن يمكنك اعتراضها لتنجو من أن يُضلّلك ذكاؤك، اكسر النمط | راقب تلك القرارات التي لطالما اتخدتها بدقة وسرعة *بذكاء* الأشخاص الذين تختار مصادقتهم فورا، الأماكن التي تقرر زيارتها فورا، الكلمات التي تقرر قولها فورا..إلخ خفّف من حدة الارتجال واسمح لنفسك بالتراجع، التراجع لا يعني تغيير الموقف، قد تعود لفعل نفس الموقف لكنك الآن قد اختبرته. اعكس الموقف | اقفز خطوة وراء خطوطك الحمراء، خُض موقفا كنت تعتبره طائشا أو أحمقا، دع ارتجاليتك الذكيّة ترتبك، تجد نفسها بالحاجة لخلق منظومة جديدة. دوافعك الأوليّة | ابعث دوافعك الأوليّة من مرقدها، مثلا الخوف دافع فعّال، ضع نفسك في تجارب خطرة تهددك ماديا، تهدد علاقاتك بشكل حقيقي. اخلع النياشين | توقّف عن إدمان الشعور بأنّك جيّد وذكي، لنكن صُرحاء فكل شخص يحافظ على نمط من النشاط العقلي سيصبح جيّدا وذكيا به، إن إدمانك لهذا الشعور اللذيذ يجعلك تلجأ دوما لقرارات وسلوكيات التي أثبتت فعاليتها ويحرمك من اتخاذ قرارات ذكيّة بالفعل! تجلّى | اصغِ إلى ثلاثة أمور تخبرك بها ذاتك: ما تحبه، ما هو مُريح، ما هو مثمر بالفعل.
إن هذه السلوكيات لا تُمارس بشكل دائم بالطبع، فأنت بحاجة إلى الاستقرار والنمط، لكن كلما شعرت أن قائمة إنجازاتك الحياتية تتخذ نمطا متكررا بمستوى متكرر من الجودة دون تصاعد، كلما كنت بحاجة إلى إحباط الخدع، هنا سأهنئك.
في البدء هذه التدوينة ليست تشريحًا فقهيًا لحكم الحجاب ولا النقاب، فالموضوع محسوم سلفًا عند جميع المهتمين، وإذا كان الأمر يهمك حتى الآن، يمكنك اعتبار هذا السطر: مخرج 1.
يتم غالبا النظر إلى سلوك التحجّب بكونه مرتبطا بالمتحجب نفسه كوِحدة منفصلة، المتحجّب اختيارا أو المحجوب كرهًا يمارس تحفظًا وجوديًا مرتبط بوجود الآخر في مجاله، يتحفظ في تعريف هويته أمام الآخر الذي قد يكون غريبا أو قريبا وزوجا أو حتى شيئا غير حي كما سيتضح !: من أنا؟ كيف أنا؟ رابطا هذين السؤالين بقيم اجتماعية أو دينية: أنا غير معروف لك لأنني أتعفف عنك، أنا – على نحو ما! ـ في حال عرفت كيفيتي أشكّل خطرًا على عفّتك وعفّتي. وفي حالة الاختيار سيجد الأمر يمثل قيمة تقديرية إضافية: وأنا أفعل ذلك لأنني شريف، وحتى لحالة الآخر: أنا لا أنظر إليك أيها المحجوب لأنني مُحترم وشريف. مخرج 2
ماذا لو تم النظر إلى سلوك التحجّب في منطقته الوسطى بين المتحجّب والآخر، منطقة التواصل التي يفرضها الاختيار أو الاضطرار، منطقة يحتاج فيها الطرفان إلى القفز بهلوانيا لمدة أربع ثوانٍ أو ساعة فوق أسئلة التحديد والتحيّة نحو سؤال بسيط مثل: من فضلك أحتاج مساحة للعبور، ممكن أمر؟ أو نحو تجاوب أخلاقي عفوي مثل: شكرا! عندما لا يكفي الصوت، أو حتى للتواصل مع الأشيا غير الحية: شمُ عِطر المكان، أو تذوّق غزل البنات من بائع متجوّل. فالإنسان الذي اخترع الرمز والقصيدة واللوحة وحتى الغناء تحت الدش في الحمّام كان يستجيب بشكل عفوي لحاجته إلى التعبير والتعريف والتي تتقاطع مع ستة احتياجات أساسية للإنسان من أصل تسعة حسب مدرسة ماكس–نيف Human scale development هي الحاجة إلى الحماية، المودة، المشاركة، الإبداع، الهويّة، والحرية. والتي تعتبرها المدرسة “حاجات وجودية” أي معبرة عن كونه إنسانا موجودا أساسا.
إن تجربة النقاب تحديدا تثقب في جدار وجود المتحجّب عبر ما يوصف بشكل شاعري “لغة العيون” أو بشكل أكثر تجردا: إنني لا أمانع في أن ترى كيف تبدو عينيَّ وأقبلُ بلعبة خطر بسيطة، ولا أمانع في أن تخاطبني عبرهما كهويّة تخبرك من أنا، ما أنا؟ أنا صوت وعينان وأهداب وكُحل ونظرة، هذا يكفي!
هل يكفي ذلك حقا؟ أعني وجوديا إلى أي حد تلبي العينان مع الصوت ست حاجات أساسية من أصل تسع؟
إن التعبير اللفظي يُلبي فقط ما نسبته 30% في أقصى حد من الاحتياج التعبيري والتواصلي للإنسان وهذه النسبة المحدودة يتم فيها اعتبار فعل “المشافهة” أي حركة الشفاه الأمر الذي يُفتقد كُليا في تجربة النقاب فالآخر لا يستطيع متابعة حركة شفاه المتنقّب، كما يتم اعتبار نبرة الصوت فيها والتي تُفتقد جزئيا في تجربة النقاب، تحكي الصحافية فدوى مساط في تجربتها للنقاب موقف نادلة المطعم معها: “وكانت النادلة تقترب من وجهي كثيرًا قائلة إنها لا تستطيع سماع كلامي” هذا الموقف التقليدي الذي ترصده كل منقّبة باستمرار، والتي قد تتلاعب في نبرة صوتها لقيمة أخلاقية: لتلافي الخضوع مثلا، أو حتى لحاجتها للتعويض عن غياب حركة الشفاه فقد ترفع صوتها أكثر مما يلزم للإسماع، وفي الحالتين هي في الحقيقة تفقد قدرا من الحاجة العفوية للتعبير، هذا وبعض الباحثين مثل إدوارد هال يذهبون إلى أن التواصل اللفظي– في حالة اكتماله– يغطي فقط 10٪ من حالة التواصل اللازمة. تذهب باقي النسبة 70 – 90% إلى التواصل غير اللفظي، وهو من جهة اتّصال المتنقب مع الآخر يتمثل في حواس المتنقب الخمس، أي سمعه ورؤيته وشمه ولمسه لما حوله، والتي يتم حجب أربع منها كليا أو جزئيا في تجربة النقاب، ويتمثل التواصل غير اللفظي في نظر الآخر للمتنقب عبر ما يُسمى بلغة الجسد عند المتنقب (والتي يجب ألا ننسى أنها ستكون مبنية على إلتقاط المتنقب لما حوله عبر حاسة واحدة كاملة من أصل خمس)، ولغة الجسد هذه هي التي يفرّق بها باحثو الاتصال بين التواصل الإنساني وتواصل الآلة، حيث بدون اللغة الصامتة أو لغة الجسد سيشبه الإنسان الآلة! كما أن السلوك اللفظي المجرد يوصف بأنه سلوك إخباري أما سلوك الجسد فهو السلوك التواصلي حقيقة، أي هو الذي ينشئ علاقة بين الإنسان والآخر لا اللفظ.
لغة الجسد| التواصل غير اللفظي في تجربة النقاب: لن أتوسع في ذكر طُرق التواصل غير اللفظي لمقارنتها بالنقاب – مع التنبيه أن لغة الجسد مجرد جزء من أجزاء التواصل غير اللفظي– لكن سيكفي أن نشير إلى أن أدوات التواصل الأساسية في لغة الجسد هي: وضعية الجسم، ملابسه، إشاراته وإيماءات الملامح، وكما ابتدأنا فإن سلوك التحجب ناشئ أساسا عن عملية التحفّظ فمن البدهي أن يتم توجيه لغة الجسد إراديا وبشكل غير إرادي نحو التحفظ فمثلا وضعية الجسم ستكون مُقيدة والملابس ستكون مُحددة سلفا للتعبير عن هذا التحفظ الذي يصل إلى حد العزل أحيانا، والذي بحد ذاته يُعارض فكرة التعبير الكُلي، ويُدافع الحاجة الأساسية إلى الهويّة والحرية والمشاركة مثلا فضلا عن أن يلبيها، بالإضافة إلى أن أكثر من 90% من إيماءات الملامح محجوبة بالكامل.
لكن ورغم سلوك التنقّب ستجد الفطرة اللحوحة طريقها للنفاذ فترى المتنقّب يبتكر عدة تعابير بتجاعيد جفنيه أو تراه يصنع فرقا تراتبيا لصوته يميز فيه بين: أهلا – أهلا وسهلا– شكرا – أنا ممتن؟ قد لا تجدها بدقة عند غيره، مما قد يفقدها جدواها عند التواصل مع الآخر غير المنتقب الذي لا يحمل ذات الخبرة، بالتالي لن يتمكن من تفسيرها، فقد يفهم النظرة الشاكرة من المتنقب بطريقته أنها نظرة راغبة، وكل ما ينبني على ذلك من تفسير وأحكام وأفعال سيكون خلاف ما أراده المتنقب، أي أنه لن يلبي حاجة المتنقب للتعبير كما يريدها. يمكن محاكاة الأمر بالتواصل الالكتروني الكتابي االقاصر، الذي اخترع الحروف المكرررررة لإثارة نبرة الصوت التأكيدية في خيال القارئ أو الوجوه التعبيرية ونحوها، نفس الأمر هنا أنت أمام تواصل يحاول المتنقب فيه تكرار الحروف – مجازا– أو إستعارة وجوه تعبيرية، وهذه مجرد مقاربة مع الفارق، فحين يكون قصدك في الكتابة الالكترونية التعبير عن نفسك وهويتك إلى أقصى حد، يكون قصد المتنقب حجب هويته وماهيّته إلا بأقل حد.
ختاما: قال الله : “ ذلك أدنى أن يُعرفن” أي من أجل أن يُعرف من هنّ؟ وما هنّ؟ ـــــ يوتيرن.
عليكم أن تعرفوا أنني استخدمت أكثر من مفردة مرادفة في البداية لتلافي مفردة موت ومشتقاتها، وعلى ذلك أن يخبركم كم أنا جبانة فيما يتعلق برحيلكم، لكنني لم أجد مرادفة حقيقية تستحق الكتابة، سأخبركم ماذا سيحدث بعد موتكم: Continue reading →
أحاول الابتعاد هذه الفترة عن جوّ النقاشات ،لكن العزيزة صفية الجفري دائما ما تطرح ما يستفز اهتمامي التخصصي بشكل شخصي توافقًا وتعارضًا، هذه التدوينة مجرد تعقيب بسيط على تدوينتها الأخيرة هنا، وتفكير بصوت مرتفع لهذه الفكرة تحديدا ( هنا ) هي ليست ردا بالدرجة الأولى. Continue reading →
تحضر مكانا مهيّجا للحس فأول ما يخطر لك أن تستحضر طيف حبيب تظن كل الظن أن هذا المكان بقشعريرته يلائمكما معا ،أو إن كنت دراميا ستفكّر كيف أن ذاكرتك تخلو حتى من طيف ، ليبقى سؤال رفيق المكان معلقا: مَن؟ ينثر الليل سحره أمامك أو يمدّ إليك الصباح سببا للفرح وسببين ، فتقطعُ اللحظة لتخاطر بالك: من يليق به هذا الزمن معك؟ ثم تسترسل في كتابة رسالة نصيّة إلى أحدهم – إن كنت محظوظا في ظنّك– . تسمع لحنا يعبر روحك ليعمّدها ، فتقطع على نفسك لحظة الطرب للتتنهّد وتخاطرُ بالك: أيّ حبيب يشابهه هذا اللحن؟… فتسترسلُ في انقطاعك … عنك!
والحكاية تتكرر في أمكنة وأزمنة وأمزجه عديدة ، ومن حسن حظك أن طيف الرفاق حولك يجعلك تجد إجابة دائمة لهذه الأسئلة وتعيش لذتها ، في نفس الوقت .. من سوء حظك أنّك لم تدرك بعد كيف تتصّل بكل هذا الوهج الوجودي وحدك، لم تدرك بعد كيف تسمح للمكان أن يهيّج حسك بالكامل ،و للزمان أن يلج روحك بالكامل ، وللمزاج أن يُطربك بالكامل، دون أن تخلق سؤالاً قلقاً: مَن يشاركك؟
والشعراء من حولك، وذاكرتك المزدهرة بأجمل الرفاق ، تجعل ذلك القلق مطبخا لذيذا لكنه لا يُجديك أبداً عندما تكتشف متأخرا أنك لم تجرب أن تتصّل بالمعنى وحدك، بوجودك وحدك ، دون التوسّل بجسد إضافيّ ، بحسّ إضافي … بذاكرة إضافية.
وحين تصيبك خيبة ، وتخسر إجابة : من يشاركك ، ولا يُسعفك البال بطيفِ أحدهم ، تنشر أحزانك البليدة وتندب كنائحة مستأجرة لم توفّ أجرها قيمة وجودك، دون أن تدرك أن ليس في الأمر أيّة مشكلة! وأنك دائما هنا إجابتك الحاضرة ، أنك أنت إجابتك التي تتجاهلها ، أنت الإجابة التي أنقصتها بنفسك قدر الكفاية ، فلم يعد يكفيك حضورك لتنتشي متفردا بوجودك، وأنك إنما خلقت “عادة الاعتياد” على حضور إضافي. للأصدقاء حضرة يُسكر قليلها وكثيرها ، وللوجد أن يغني طائفا بهم ” شربتُ الرّاح من راحته … “ ، على ألا يكون زر “المشاركة” أقرب إليك من حبل وريد روحك، على أن يكون سؤال البال عنهم مبهجا لا قَلِقا … وأن تكون الإجابة بهم ترفا أو حاجة ليس اضطرارا يفصلك عن ذاتك ، عن معناك الخاصّ. وهذا كله– حقيقة!- ليس وصولا نهائيا إليك ، ليس تفسيرا باردا لكونك موجود ، فربّما بعد التخلّص من كل شيء لتتشرب معنى الوجود مباشرة ستجده واقفا ليصفع أملك الأبله ، لا تكن ورديّا إذا أردت أن تجرب (وهل تملك ألا تجرّب؟) ، إنما هذا كله – حقيقةً – من الممكن جدا أن يحميك أو يسلّيك فيما لو صُفعت.
تتزيّا حروفك بثمانية وعشرين زيّا، تحمل إعرابها وعلامات الترقيم باتصال وشاح راقصةٍ شرقيّة ، تستعير نغم مفردات من لغةٍ ساحرة تتعلمها بجدّ … صفحتك البِكر ، أصابعك العشرة، كل شيء جاهز لحفلة معنى … معنى يخاف البهرجة ويختار أن يوّلي أسَفًا وآسِفًا ، ليفتعل البقيّة فرحا للاشيء ، اللاشيء الذي يجعل الفراغ : عاديّا ومُستساغا ، وقبل أن تعتقد أن شيطان الفلسفة قد زارك ، تباغته بنقرة على “الكيبورد” تضيئ الشاشة النائمة: أيّ شيء … اكتب فحسب!
ما كانت اللغة يوما مُشكلتك ، ما كان شغفك قادرا على أن يغيب دون إنذار، لكنّه بات يفعل وأنت تتساءل بشعور أبويّ بالتقصير: من علّم صبيّي الصغير أن يغيب؟ ثم – في سرّك – تغفر له. لأنّك مضطّر لأن تمدد بسبب إلى الحياة ، و شغفك يساعدك في ذلك، إنه نُطفتك التي تحمل عبء مزاجك وتحمل أنتَ عنها وزر الاختباء المفاجئ، ربما تلك طريقته في التعبير عن نضجه، أنت تعرف كيف أن ارتكاب المواعيد السرّية وافتعال اللامبالاة ونبرةُ الرفض من شأنها أن تعبّر عن النّضج الوفير الأوّل، عن السّرير المُبلّل وعن الأصدقاء الجُدد الأهمّ من الآباء، صحيح؟ … وإن لم يكن ذلك صحيحا ، ماذا إذن بوسعك أن تفعل؟! ستغفر له أيضا! شغفك، وكتبك، وأقلامك، وأصدقاؤك، و… كلهم – فجأة- يعيشون لحظة النضج الوفير تلك، ومتعة الانفصال عنك، كلهم ستغفر لهم ، وعليك هذه المرّة أن تكتب وحدك، أقصد عليك أن تجد معناكَ الخاصّ، أو – إذا أردنا أن نكون أكثر مواجهة- عليك أن تُوجده.
النّاس الذين يقرأون المائة وأربعين حرفا بملل، ويغنون على نمط مُسَرّع دون أن يمنحوا خلاياهم فرصة الرّقص ودون أن يمنحوا قلوبهم فرصة أن يدّق مرّة بين كل مرتين، الذين يخبرونك أن لديهم حياةً مُهمّة بينما ينظرون إلى جوّالاتهم كل ثانيتين، الذين يجيدون الضحك لكنهم لم يكتشفوا بعد حلاوة السُّخرية، الذين “يحبّون الصالحين” بطريقة فاسدة، لا يمكن أن يمنحوك معنى مثيرا لشغفك أو مغريا له ليعود، يجعلونك ممتنّا لغيابه، أنت تخجل من أن يعود ويكتشف أنّك كنت تمضي الوقت على هامشهم – مهما برّرت – وعليك أن تمتنّ أيضا لكل هذا الهامش المتضخّم، الذي يطردك بفضاضة من معناه الخاصّ، ويخبرك أنّ معناك لم يعد يشبهه، إنه بذلك يمنحك “تلميحة” أو مساعدة مجانية لحلّ معناك الخاصّ.
أن يفقد الأشخاص من حولك والأشياء أيضا دلالاتها الاعتياديّة المثيرة أحيانا أو أن تفقد أنت القدرة على قراءة معنى من خلالها ربما هي تبدلت وربما أنت لم تعد مهتمّا كفاية ، لا يهم ما الذي حدث بالضبط هنا ، المهم أن حدثا هنا يخبرك أنك عن كلِّ شيءٍ منفصل، وأنّك الآن تُدرك شاشتك النائمة مرّة أخرى بنقرةٍ تُضيئها فحسب، لتؤكد أنّك مازلت تحاول…
دون أن ترتّب للأمر، تزورك إطلالة من الذاكرة تمنحك استراحة أو ظلال صُحبة كانت تميّز صوت كيفين المتداخل مع رفاقه بحس النضح الوفير ذاك، ظلال تُخبرك أن تصغي بقلبك لمعنى في الجوار يراقبك ، يستأذنك بلُطفك: “عندي مداخلة”، ويغنّي:
الحُبُّ…هو تفوّقك على الذّاكرةِ اللحوح، على الُحلمِ المتأهّب أوّل الطّابور .. على التجربةِ التي أكلت كتفَ الإيمان !
الحُبُّ…هو توقّفك المُقامرُ بفهمِ الذّاتِ ، ارتدادٌ لأولِ المشوارِ ، بدؤكَ من جديد… صفرًا مقسومًا على اثنينِ !
الحُبّ…إفاقتُك من لُبّ غفوة ، إلتفاتتك نحو كتابكَ الذي يُشارككَ السّرير ، تزيحُ جزءً من غِطائك عنك .. تضعه عليه!
الحُبُّ…هو فكرةٌ تخطفُك من حديث ، تجرّك خارج لقاءٍ حميم ، تأسرُ ذهنك ، حتّى تفتديه بأسرِها وتقييدها فِي سَطر .. !
الحُبُّ…غمزتُكَ المشاغبة لطفلً معلّقٍ في ظهرِ أمه ، لسانُك المدودُ لإغاظته ! الحبّ …استدارتك للجانب الآخر بضحكة مخنوقة ، حين تلتفت أمه!
الحُبُّ…قنينةُ ماء تمدّها لشفاهٍ جافة … وأنت تطوي شفاهكَ وقد ارتوت بأجرها !
الحُبُّ…تميمةٌ معلقةٌ على صدرِ ذاكرة ، أُنسيت آيةُ النسيان !
الحُبُّ…هو ذاتك التي تلعبُ معك ، تغوص في ذاتٍ أخرى .. وأنتَ تعدُّ : واحد .. اثنان … ثلاثة .. أفتح؟ .. تفتحُ عينيك لاهثاً لا تدري أيّ عين من هذه العيون حولك ، تلمعُ فيها ذاتك الشقية …
قالت: أحبّكَ ، وهي تقصدها من الهمزة إلى الفتحة ، معنىً وحِسّـاً … وذاكرة! ، كانت الشدّة على الباء تشي لها بخيبة أمل ما ، عندما قررت أن تخبّئها في مكان متوارٍ بعيداً عن الذاكرة ، قبل النسيان بقليل ، لم تجدها!
قال: أحبّكِ ، وهو يقصد الهمزة تماماً معنىً وحسّاً … وذاكرة ، مندفعاً عند الحاء متردداً قبل الباء ، مندهشاً من الكاف التي بدت وكأنها تعترض طريقه فجأة … أما الكسرة التي تعنيها هي فقد كانت …