أقرأ في هذه المرحلة كتاب (المتعلمة Educated ) سيرة ذاتية للمؤلفة الأمريكية تارا ويستوفر، حيث نشدت روحها تراتيل الحرية بعد أن طربت على صوت القيود إذ نشأت في أسرة متطرفة ترى نهاية العالم في المحيط الكافر، في حضن أبٍ يبصر المؤامرة الشنيعة في كل عين تنظر إليه، يتساقط أطفاله في مهالك الجبل والوادي فيأبى عليهم الكفر بالخضوع إلى علاج طبي، فضلا عما عدا ذلك من الترف المدنّس مثل: التعليم المدرسيّ! وبين يدي أمٌ خانعة لم تجمع اللام مع الألف يوما لتنتهي أو تنهى، تسرد تارا بوجع شفيف ولاؤها الحاد لأبويها وعقيدتهما، ثم انعتاقها من ذلك حين تطفلت على التعليم حتى وصلت إلى دهاليز هارفرد وكامبردج، روحٌ تمزّعت بين حاجة الانتماء للعائلة، وضرورة الاتّساق مع الذات، ملحمة في الحب المشروط، الوالدية المسمومة، فقد الهوية وانبعاثها، جراح الذات وخَلاصها.

هذا النوع من السير الذاتية، يشعرني بضآلة التجربة البشرية وعظمتها على السّواء، فتحسبُ أنك جرمٌ صغير وفيك انطوى العالم الأكبرُ! يجد كلٌّ منا السلوى في فرادة آلامه، وحدة جراحه، ومرارة طفولته، وتيه شبابه، حتى يظن – لولا ختم الرسالة – أنه سيكون نبيا مرسلا حتى يجد لتجربته هذه تجسيدا خالدا! ثم نقرأ مثل هذه السير الذاتية لنعرف أننا نكاد نتحد في تجربتنا البشرية، وأنه مع اختلاف طعم المرارة، إلا أن الألم يشبه بعضه، ومع اختلاف لذعة الحلاوة إلا أن الفرح يشبه بعضه، أفكّر أحيانا أن في ذلك تحجيما لذواتنا الطاغية، وبعبارة انجليزية أصح: that humbles you !
أودّ لو أجلس مع كل (تارا ويستوفر) فرد العائلة الذي يقرر إيقاف دوائر الإساءة، ويقطع دابر العنف، ويصنع ترياقا لهذه السَُمية العلائقية، هذا الفرد الذي سيكون عليه إعادة تعريف الأشياء، كل الأشياء! بدءً من ذاته، إلى مفردات مفصلية مثل: أب، أم، زوج، جيران .. أصدقاء، قطط، وبيت ومصباح! لأن الانعتاق من المألوف السام وإن بدا في ذاته تطهيرا وخلاصا إلا أنه في حقيقته استبدال المعروف بالمجهول، فماذا سيعني أن تكوني ابنة؟ إذا لم تجربي يوما ذلك؟ وماذا سيعني الحب؟ وماهي العائلة؟ وكيف سيكون الطبيعي في هذه الحياة؟
أفكّر منذ شهور بإمعان في هذه الفكرة: كم أشغلنا الابتعاد عن النموذج العائلي المرفوض عن تعريف ماهو المقبول؟ كيف سيكون لنا أن نستلذّ الحبّ بعد أن تجرّعنا الخيبة، كيف لنا معرفة دورنا كآباء مراعين ومُحبّين وكل ما نعرفه هو كيف ألا نكون ذلك؟ يتكلم الكثيرون عن كسر الدائرة، ولا أحد يتكلم عن الفراغ الهائل الذي يبتلع ذواتنا بعد غياب الدائرة. أفكّر من شهور: لقد أفنينا عمرا في قص الزنابق السّامة، وافترضنا أن الليلك سيعطّرنا وسينبت بذاته، حتى انتبهنا أننا لا نعرف شكل البذور، ولا عادات الريّ، وأن كل ما نجيده هو النبذ والرفض والانعتاق.
تفكرون في ذلك؟