سياقات مُنهارة وبديلة: أن تُشتم في تويتر!

كتبت مسوّدة هذه التدوينة قبل 8 شهور تقريبًا، عندما تعرّض أحد أصدقائي إلى هجوم الكتروني مسعور يشكّك بدءًا في صحة اتخاذه لقرار إداري يخصّ مبادرة اجتماعية عظيمة، ثم انضم إلى الهجوم مبدعون خلاّقون، كل منهم اختلق سياقا بديلا يناسب جماهيره التي تسعّر له قيمة إعلاناته أو ما ينتفع به من الآخرين نظير شهرته: الوطنجي: رأى في القرار حربا على الوطن، القومجي: وصف الموقف كاستشراق جديد، وكم هو سهل أن تفتح قائمة (القضايا) وتختار قضية جماهيرية، ودون حتى أن تحتاج إلى (سرديّة) سليمة أو مقنعة، بليغة أو ركيكة، لا يهم، المهم أن تعرف كيف تحرّك غرائز جماهيرك لتهجم معك، ونظرا لتجربتي (الرائعة) الأخيرة، قررت إعادة كتابة هذه التدوينة، ونشرها.

العقد الاجتماعي الالكتروني الجديد: عبيد يأكلون آلهتهم:

تقوم فكرة التفاعل الجماهيري على مواقع التواصل الاجتماعي على فكرة: (مَثَل وأمثولة) وسأحكي لكم الآن قصة (المَثَل): يخلق المستخدم الالكتروني شخصية ذات سياق شخصي مستمر من خلال محتواه وتفاعله الدائم مع متابعيه، إلى أن يجعلهم مقتنعين أنه مثلهم الأعلى الـ: مُضحك/جلاد/ساخر/ناقد/وسيم/أنيق/مثقف.. وغيرها، لا يمكن أن يحتوي المثل على أكثر من صفة عُليا، بمعنى لا يمكن للمَثَل المشهور أن يفصح بحدة عن كافة جوانب شخصيته، ثم يبدأ التأثير بتوجيه المتابعين نحو آراء معينة تخدمه، أو شراء منتجات وخدمات تفيده ماديا،  عليك -وأنت المثل- أن تُرى ضمن السياق الذي كرّسته عند جماهيرك/عبيدك، وإلا سيتحولون إلى أداة قمع مجنونة اسمها (خلّيك) :  خليك في الفاشن/ خليك في الطبخ/ خليك في القيمز .. كما يفعل العُباد بآلهتهم التي إذا جاعوا…. أكلوها.

المَثَل/المشهور/المؤثر: هو أسير جماهيرية مشروطة، مشروطة بأن يبقى داخل الإطار، يستجيب لرغائب أتباعه، يحافظ عليهم بطريقة تبدأ عادلة: يعطيهم كود خصم لمتاجرهم المفضلة، أو سحب على ايفون، أو ينشر تعليقاتهم مما يمنحهم اهتماما جماهيريا دون أن يضطروا لأن يكونوا مشهورين. ثم تنفرط الأمور مع المنافسة غير العادلة وغير المقننة بين المشاهير (مع الشكر لوزارة التجارة على تحديث أنظمتها) إلى أن تصبح طريقة المحافظة على شراهة الجماهير المتمثلة في اللايك وإعادة النشر غير عادلة، نحو: ماذا لو أظهر لهم جزءً من علاقتي بشريكي؟ مقطع رقص مسرّب؟ ماذا لو أفتح الكاميرا وأبكي أمامهم؟ ماذا لو أشتم مشهورا آخرا؟ ماذا لو أتبنى الموقف الذي يحبونه تجاه قضاياي الشخصية؟ وحيث لم يعد كود الخصم كافيا فإن الجماهير الشرهة بحاجة إلى المزيد من الترفيه، ومع إدراك الجماهير قوتهم الشرائية، وقوتهم التفاعلية في تسعير أعمال المشهور وقيمته الاجتماعية، فإننا نشهد انتقال العقد الاجتماعي الالكتروني من كونه غير عادل إلى مجحف بحق المشهور/المؤثر الذي يخسر مسبقا أي تعاطف تجاه استباحة حياته، وخياراته، وحتى استباحته شخصيا بحجة أنك مشهور ويجب أن تتحمل ثمن تعرّضك للجماهير، يردد الناس هذه العبارة دون أن يدركوا وحشيتها، فهي مثل أن تقول: من حقك أن تدفع كل شخص وقف على حافة جبل شاهق لأنه كان يجب عليه أن يتحمل ثمن تعرّضه للحافّة. وهذا جنون. حيث إنه من المفهوم أن المشهور اتخذ قرارا واعيا (لنفترض) بشأن بدء شهرته، أو بشأن استمرارها مقابل انتفاعه من هذه العلاقة الشائكة.، إلا أن ذلك لا يبرر (أن تأكله) الجماهير كلما جاعت.

منيو الجماهير الجائعة … أكثر شراهة

فيما بدأ كطلب جماهيري بسيط من المتابعين لمشهورهم: مجرد أن تبقى في (إطار الـشخصية) وتلبي مجموعة هامشية من التفضيلات: أبو نورة أو طلال؟ نصر أو هلال؟ حجاب أو بلا حجاب؟ نسوية أو ذكورية؟ ، انتهى بقائمة لا نهائية وغير متوقعة من الافتراضات، وشراهة غير متسقة ضمن أيّ سياق، يصبح فجأة مجرد تساؤل عن التخصص العلمي وجبة ضمن منيو الجماهير الجائعة، لنتابع  المثال السابق في مراحله الأربع:

كل ذلك لا يمكن أن يكون عاديا، وطبيعيا، ومقبولا.

المشهور/المَثَل/ المؤثر…العبيط!

وهو: أنا، ومن هم مثلي، مؤثرون الواحد منّا يحاول الخروج باستمرار من كل السياقات، يرفض الإعلانات، ويرفض المشاركات، ويغيّر حساباته باستمرار حتى لا تصيده الجماهيرية حتى في حبها، لكنها تستدلّ عليه في النهاية،يرفض أن يكون له حساب شخصي سرّي! ، حذف مستمر للكلمات المصورة على المسارح، رفض مستمر لتأليه المتابعين وشعاراتهم، أذكر أنني عندما جربت التدريس في الجامعة كان أكثر ما كرهته هو أن تعتبرني طالبة قدوتها، ذلك عبء لا أريده، لكن .. محاولة تطبيق كل ذلك في حساب الكتروني يبدو أنه تصرف اعتباطي وعبثي،كان فعّالا ما قبل الـ2011، لكن ليس اليوم، فالبيئة مفتوحة وخارج سيطرة المستخدم، والجماهير الجوعى تسير كزومبيز بلا قائد سوى رائحة الدم الطازج، ستخلق منك آلهة حتى لو أبيت، حتى لو قاومت، وستفترض منك تبني قضاياها، حتى وإن توافقت مع قضاياك، واتحد إيمانك مع إيمانهم، فإنهم سيجدون مبررا لوجبة عشاء طازجة مثل: أنت لا تؤمن كفاية! لا تتكلم كفاية، حتى صمتك لا يشبه الصمت المثالي! ، حتى وإن تكلمت بشكل إبداعي فإنك متأخرة لثانية.

الأمثولة:

لطالما كانت القصص هي المحرّك للغرائز البشرية البدائية، يخرج الصيّاد من كهفه ليصطاد طريدته؛ لأن قصّة الجوع التي عاشها وحكاها وحُكيت له تُلهمه للخروج كل يوم، تقذف أنثى نفسها في قاع الموت لأن قصّة الأمومة التي حُكيت لها مقنعة إلى ذلك الحدّ، تعود هي لتحكي قصص التخويف والترهيب لأبنائها لأن ذلك يطوّعهم، القصة تجعلك صيّادا ماهرا، وابنا خانعا في ذات الوقت. صناعة المحتوى الالكتروني قائمة على خلق قصة، ولقد اعتدنا أن تكون تلك القصص مروية من قبل “صنّاع المحتوى” نحن دون سوانا لدينا مهارات السرد والحكاية، الكتابة أو التصوير والتحدث، الذي تطوّر أن الشركات التقنّية رفعت من تمكين الجميع من المشاركة في صياغة القصة، وذلك بدا ثوريا ورائعا للغاية، أن تحكي قصّتك دون اشتراط أن تمتلك مهارة محترفة، لكنه انتهى عبثيا تحت صبغة شعبوية مثل: حق التعبير، حق المشاركة، مما جعل الجميع يعتقدون أنهم يملكون الحق في الاعتداء على سرّديتك وروايتك مع الشعور بالاستحقاق العالي لإطلاق غرائزهم الوحشية، من الطبيعي أن تضع صورة لابنك وهو ذاهب لمدرسته، هذه سرديتك وذلك سياقك، يخطفها مستخدم آخر ليعلّق على سوء تربيتك الذي استنتجه من حمل ابنك للآيباد، يخطف ذلك مستخدم آخر ليعلّق على (قُبح) ملامح ابنك الهجينة، هذا يحدث كل يوم، اختطاف القصص، وخلق شهرة خاطفة إثر تعليق عابر، وهذا بالضبط هو الفارق الجوهري الذي جعل التنمّر/الاعتداء على القصص يزدهر! وهو أنك كنت تحتاج إلى خلق شخصية كاملة بسياقها ومحتواها لتحصل على الشهرة والانتباه، الآن ..لا داعٍ لذلك ..ابق مغمورا لكن اكتب تعليقا وقحا ومرحا، ساخرا وجارحا، وستحصل على انتباه هائل وشهرة بحجم كبسولة لكن ستعطيك شعورا بالتفوّق العابر الذي سرعان ما سينطفئ! إدمان هذا الشعور هو الإدمان الجديد. لقد انتقلنا من إدمان تشتت الانتباه، إلى إدمان جلب الانتباه. ولقد أصبح تحويل (المثل) إلى أمثولة ..هو السلوك المفضّل الجديد لأتباع الآلهة، لأن ذلك يعطيهم قبسا من وهج الشهرة والانتباه.

أصحاب القضية لهم حق إحداث الصخب، تلك نيران صديقة

أحد أهم تبريرات الاعتداء على القصص واعتلال السياقات واختلاقها، هو اعتبار أن الأخلاق حالة (رفاهية) لا تتسق مع (اضطرار) صاحب القضية للتعبير، والاستنجاد وإحداث الصخب اللازم لإزعاج (السُّلطات!) ورغم قناعتي أن هذا -غباء- واستغلال إلا أنني أتفهمه في بعض الأحيان حينما يأخذ طابع النيران الصديقة، عندما تشتمني (نسويّة) لأنني كتبت عن تحديث قانونيّ تقدّمي لصالحها، أتفهم الغضب المكبوت واكتفي بالحظر، وسأذهب إلى أبعد من ذلك وأقول: إن بعض الحُمق والحنق والوقاحة مطلوبة، لكن ذلك يجب ألا يساوي: الاعتداء المستهدف، فما الفرق؟

عندما تعلّق بوقاحة عابرة لحساب عابر فذلك اعتداء يمكن تفّهم سياقاته، أما عندما تقتبس التعليق لتستعدي متابعيك، أو تجيش الآخرين في هاشتاق، أو حتى تكتب تعليقا عابرا لكنك مؤثر فإن ذلك يجعل اعتداءك مستهدفا، هذه ليست نيران صديقة هذا اعتداء، ولقد مررت بالمثال الأخير، فأنا لا أشارك في أيّ هاشتاق مستهدف ولا أقتبس لأستعدي، لكنني أرد (منشن) باعتراض وربما اعتداء، لكن حالما ألاحظ أن المتابعين عندي التقطوا المشهد وبدأت لديهم شراهة الحصول على الانتباه عن طريق (التعزيز) لي! ويصبح الطرف الآخر مستهدفا، فإنني على الفور أتوقف، أحذف تعليقي، وأطالب الجميع بالتوقف، أحظر المتابع الذي يعتبر نقدي (جلدا) حتى وإن حاول اللعب في صفي ودعم موقفي، ذلك الدعم لا يلزمني! فمن غير المعقول أن تتخلى كمؤثر – حتى وإن كنت عبيطا مثلي- عن مسؤوليتك، وتعتبر ردك (عادي، وبسيط) عندما تكون عارفا أن متابعيك الشرهين سيمتصّون الدم الطازج الذي أرقته للتو.

دليل إرشادي:

إذا وجدت نفسك في وضع اعتداء على قصّتك، أقترح عليك:

  1. لا تعتذر: ما دمت لا تعتبر حسابك مصدرا لدخلك المادي، فالمتابع ليس عميلك، فلا داعٍ لأن تبحث عن رضاه، فضلا عن أن أي اعتذار -مهما كان صادقا- فلن يكون كافيا لإعادة بناء السياق، لقد انهار سياقك واُستبدِل، تعامل مع الموقف على هذا الأساس.
  2. لا تجادل: إن جدالك للجماهير الجوعى هو حقن بجرعة إضافة لإدمان الانتباه لديهم، وأنا لا أنسى أولئك المستخدمين الذي كانوا يراسلونني في الخاص توسّلا للرد عليهم بشكل عام، لأنني تجاهلتهم وذلك آلمهم، حتى عندما تحظرهم سيراسلونك من حساباتهم الأخرى لتحظرها، فالحظر نوع من الانتباه أيضا، لقد فشلت أمهاتهم في منحهم الأمان الكافي، والانتباه الذي احتاجوا إليه، لذلك أشجع دائما زيارة أخصائي نفسي.
  3. لا تتراجع:  مرة أخرى، محاولة إعادة بناء السياق هي محاولة عبثية، لا تحاول التراجع عما تؤمن به.
  4. إنهم ينسون: #لن_ننسى هي أكثر عبارة متلاعبة، قد تبدو لك الذاكرة الالكترونية مرعبة فهناك نسخ متعددة لقصصك في مساحات لا تملك عليها زر الحذف، ووجود برامج للبحث في الأرشيف، وعدد من الأشخاص الذين يرفعون شعار (لن ننسى) ستستفزّهم هذه الفقرة التي تهدم شعاراتهم، لكن فعليا، وإحصائيا، وتقنيّا.. إنهم ينسون. فالحياة الالكترونية كلها مصممة لأن تنساك عن طريق الغمر، تغمرك محتواك في محتوى آلاف الملايين غيرك الذي تخلطه الخوارزميات في خلاط كبير يتجدد مع كل تحديث للتطبيق، الحياة الالكترونية مبنية على عامل السرعة والانتباه المشتت، والتدفق اللحظي المستمر للمحتوى، بما في ذلك القصة نفسها والاعتداء عليها، فالحياة الفعّالة للتغريدة مثلا بمعدل 20 دقيقة هذا فقط في حال كان نشاطك مستمرا! مالم تُسقطها الخوارزمية، فسيسقطها (التايملاين) بعد أيام، حتى المحتوى المصوّر سيندثر مع الصور المتدفقة، هذا لا يعني أن الاعتداء هيّن وبلا أضرار، فالناس يفقدون وظائفهم وحتى أرواحهم إثره، لكنك إن نجوت من ذلك فغالبا ستؤول الأمور نحو الأهون.
  5. استمرّ  في حكاية قصصك: استمرّ في كونك أنت، ما تريد، ما تحب، استمر في حكاية المزيد من قصصك، بسرديّتك، بسياقك.

One thought on “سياقات مُنهارة وبديلة: أن تُشتم في تويتر!

  1. هل لي ان اقتبس من كلامك لاقول استمرّ في حكاية قصصك: استمرّ في كونك أنت، ما تريد، ما تحب، استمر في حكاية المزيد من قصصك، بسرديّتك، بسياقك.

    كما واتمنى ان تقبلي مني هذا فقد كان وحقا مولد شجاعة من نوع يخصك وصفك انتي .. شجاعة التخلي
    https://soundcloud.com/salim-hamid-524680128/jlvliztwbtf8

Comments are closed.