إنّ الذي يجعل النايّ يبقى بعدما يفنى الوجود هو قدرة الناي على الظهور كنوتة منفردة مهما تداخلت أصوات الاوركسترا، يعلو ويزهو دون أن يشذّ، بل يضيف بإنفراده على الجموع بريقا فريدا، وعندما أراد الموسيقار العظيم محمد عبدالوهاب أن يهيء العالم لماهية أن تُسقط عمرا على عمرك في رائعته (أنت عمري) اختار أن يبدأ الملحمة بعزف منفرد، ذلك أنك لا يمكن أن ترى في الآخر عمرا ما لم تنفرد أنت بذاتك في عمرك، وإلا فذلك عمر ضائع “يحسبوه إزايّ عليّا”؟ ولطالما غنّت الستّ في وجه الجمهور إلا عندما تجرأ على ساحتها العازف سيّد سالم بصولو ناي وغالبها في عملية فدائية، أصابتها وأصبحت هي الجمهور فتنهدت: “إيه ده؟” وأكملت فـ”جرح الأحبة عندي غيرُ ذي ألمِ”. البريق الفريد، العزف المنفرد المتناغم، الجرأة، الستّ جمهورك، ذلك بالضبط ما يعنيه أن تعيش مستقلا، في موطنك الخاصّ بك، هذه التدوينة للاحتفاء بالطيور الحرّة وبهجة نمط الحياة المستقلة!
غادر العُش، حلّق بعيدا
لا أودّ أن أتجاهل كافة السياقات الاجتماعية التي تخلق ارتباطات وإلتزامات تحاول منع الشخص من أن يعزف منفردا، وفي نفس الوقت لا أريد لهذه التدوينة أن تكون دليلا في تحقيق الاستقلالية، فهي موجهة للاحتفاء بالمستقلّين، الذين صنعوا هذا الخيار من صميم المعمعة الاجتماعية، ثم اختاروه، أما أولئك الذين قدمت الحياة لهم خيارا بالاستقلال بوسع السماء لكنهم اختاروا العشّ … عارٌ عليكم! لقد فاتتكم الحياة.
لا يمكن اعتبار
الغرفة الخاصة أو الملحق الخاص في منزل العائلة سكنٌ مستقل، ذلك لأنه يفتقد إلى
أهم مكوّنات الاستقلال المكاني والنفسي والاجتماعي والمادي، الشباب الذي يعتبرون
سكنهم في ملحق العائلة استقلالا يعيشون مفهوما مخدّرا ومضللا للاستقلال، ربما
يوارون خوفهم وعجزهم في أن يستقلّوا فعلا، حتى أولئك الذين منحتهم العائلة منزلا
كاملا ضمن نطاق ملكية منازلها، حتى هم ليسوا مستقلّين حتى وإن تكلّفوا به ماديا.
هناك فرق شاسع بين المساحة الخاصّة تحت مظلة العائلة، وبين الاستقلال عنها، بين أن
تبني مجموعة أعشاش محاذية، وبين أن تحلّق بعيدا. المساحة الخاصة امتياز بينما
السكن المستقل أسلوب حياة مجرّد. حتى في المعنى القاموسيّ للاستقلال يعني أن يكون
الشخص قائم بنفسه، يحكم نفسه، ولديه السيادة الكاملة!
“بس أنا اجتماعي” …. ماله دخل
هناك تصور خاطئ في وصف الشخص المستقل بالوحيد، أو في ربط المستقل بشخصية الانطوائي، يقول لك أحدهم: أنا اجتماعي لذلك لا أستطيع العيش منفردا. لا.. أنتَ خائفٌ واتكاليّ لا تستطيع أن تعيش مع نفسك. المستقل ليس وحيدا بالضرورة، وبالتأكيد ليس انطوائيا بالشرط، أعجبني مقطعا بينما أقرأ لـ Zora Schärer في فصل يتحدث فيه عن (نموذج العزف المنفرد) ورغم أن الكتاب موسيقيّ بحت، لكن انظروا معي إلى بلاغة هذا الوصف لحالة العازف المنفرد، سأحاول ترجمته بدون أن أفقد السيطرة على شاعرية الموقف:
“إن الفنّان العظيم ليس ذلك الذي يقدّم ذات النسخة من عرضه الموسيقيّ ليلةً بعد ليلة؛ بل هو الذي يكيّف عرضه الموسيقي في كل مرة من خلال التواصل مع الجمهور، ومع أخذ الظروف البيئية بالحسبان. والسبب وراء ذلك أن العرض الفنّي جزء لا يتجزأ من سياق حدوثه. إن الموسيقى المؤدّاة لا يمكن عزلها عن البيئة الناشئة فيها، بل إن البيئة ذاتها لديها احتمالية التأثير التي تجعلها جزء من الحدث الصوتيّ لذلك العرض المنفرد”
بالمثل؛ إن الشخص المستقل جزء لا يتجزأ من سياق حدوثه! متصل بعائلته، دون أن تكون لها سيادة مطلقة عليه، يقوم بالزيارات الاجتماعية بحبّ واختيار ووئام لا إلزام، متواصل مع أصدقائه وزملائه وأحبائه دون أن يكون رهينا لهم. المستقل يكيّف تجربته في الاستقلال من خلال التفاعل مع محيطه بشكل منفرد، ذلك ما لا يجرؤ عليه معظم الناس، الذي يضعون العائلة وسيطا بينهم وبين المحيط، فالعائلة تبرمج لهم أفكارهم، معتقداتهم، قوائم الصواب والخطأ، لائحة الأخلاقيات، وحتى حق اختيار الزوجية. عرضٌ موسيقيّ مستعار وناشز. هنالك سبع سماوات فاصلة بين أن تتواصل مع عائلتك، وبين أن تحدث أنت من خلالها.
رفقة الصديق الذي طالما هربت منه
يوفّر العيش
المستقل تجربة إنضاج محترمة للشخص، تبدأ من توريطه بصديقه الحميم، سؤالاته
المطروحه في ذهنه، قراراته المؤجلة، الخلوص من القوالب الاجتماعية الافتراضية لحلّ
ألعاب الحياة، عندما تواجهك مشكلة حتى لو كانت ببساطة تسريب الماء من المغسلة،
سيكون عليك أن تحلّ الأمر بنفسك، وصولا إلى اتخاذ قرارات أكثر مصيرية، مثل: من
سيطبخ لي المرقوق اليوم؟
موطني موطني .. هل أراكَ في عُلاك؟
تمثل الشقّة أو الاستديو الذي يسكنه المستقل مركز العمليات الذي يحكم من خلاله العالم، وهذا يبدو مجازا لكنه حقيقة، تبدأ تفاصيل جودة حياة المستقل من أنتكة شقته، باليت الألوان الذي يستخدمه في التأثيث، رصف القطع، أدوات التشغيل اليومية للطبخ والتسخين، الكنبة التي ينام عليها الأصدقاء أو الزائر من العائلة، زاوية العمل والترفيه، قد أبدو “شاطحة” لكنني أؤمن أن رعاية المستقل لموطنه الصغير يشي بكل شيء عن شخصيته، بعبارة أكثر وضوحا: احكم على الشخص من شقته! واحدة من الفلاتر التي تساعدني على إبقاء الأشخاص ذوي جودة الحياة العالية بجواري، هي طريقتهم في إدارة مركز عمليات التحكم في العالم الذي يملكونه، الرائحة الرطبة والملابس المتسخة على الأرض، والصحون غير المجليّة من أسبوع، كلها أمور لا تعني أن هناك شخص مستقل فعلا خلف هذا المركز
عندما أنظر إلى رتم حياتي المتسارع، فإن محاولة التوقف لالتقاط الأنفاس هو مشروعي الدائم، رغم أنني منذ العام 2018 كنت قد قررت التوقف عن مقاومة الرتم السريع لأنه ببساطة ما تنزع إليه روحي، ما المشكلة؟ قلق؟ سأعالجه.
تعود ذاكرتي إلى العام 2015 حيث كنت قد قررت في ذلك العام أن أخصصه لفعل لاشيء لأسباب كانت حرجة وخارج سيطرتي، لا للتوقف لالتقاط الأنفاس فحسب بل للتوقف تماما، لا قوائم لا خطط لا تدريب لا تعليم لا شيء.. في الشهر السادس نكثت العهد ولست نادمة عليه، لقد فضلت اختيار نفسي لا اختيار الخطة، لكنني في نفس في غاية الامتنان لتلك الأشهر الستة الخالية من القلق، وكنت أعد نفسي بأنني – يوما ما- سأكررها.
خطة اللاخطة
لا يمكن أن تكون الظروف أكثر مؤاتية من هذه الظروف، كل شيء يشجعني على أن أهديء من روع الرتم، أكتفي بساعات العمل بالبيجاما وبإنهاء الاجتماع بينما أطبخ الغداء، ثم؟ لا شيء.. أعرف أنني كل يوم كنت أملك هذا الخيار، لكن الشعور بالفوات محرض على الشعور بالذنب، وهذا شعور سامّ لكنني لم أتخلص منه بعد، إذا طالما هنا ما يمكنني الإفادة منه لكنه يفوتني فإنني سأشعر بالذنب، الجيد في هذه الظروف أنني حتى وإن أردت أن أضيف شيئا إلى جدولي فكل من وما حولي في سكون، القرارات من حولك كلها تقول لك: لا أحد يريدك أنت الموبوء المحتمل بالفايرس.. لذلك قلت لنفسي: هذه هي! هذه هي فرصتي في فعل لا شيء بدون الشعور بالفوات.
في اليوم الرابع، الخطة فشلت. لكن بشكل إبداعي جدا (ماشاء الله!) أنا نفسي لم أتوقعه، حيث بدأت كل الملفات المركونة في ذهني بدقّ مسامير من داخل رأسي، كل ملف يريد أن يعلق لوحة: هيه! يا فاضية .. أنا هنا. الأشخاص المعجونون بالقلق – مثلي- سيفهمون أن خوض النقاش مع الملفات المركونة هو معركة خاسرة، لذلك قررت أن أنهزم بشرف، شرف عدم المحاولة. وهذا النوع من الهزائم الذي أحبه، حيث يوافق رغباتي الدفينية، رغباتي في أقوم وأتحرك.
ماراثون
من الأمور التي أحب ممارستها هي الماراثونات، وهي تكريس 24 ساعة متصلة لنشاط واحد فقط، ماراثون من المشاهدة لموسم كامل أو موسمين، مارثوان من القراءة لكتاب كامل، ماراثون من الرغي مع الأصدقاء دون النظر إلى الساعة. الممارسة حتى الإنهاك، حتى تشعر أنك تريد أن تتقيأ نتفلكس أو دار النشر. هذا النشاط المتطرف كنت أمارسه كثيرا أيام دراستي الجامعية، رغم أنني كنت أعمل وقتها بالتوازي، لكنني كنت أجد الوقت لماراثون واحد كل شهرين أو ثلاثة تقريبا. منذ بدء الكارنتينا اليوم هو اليوم الواحد والثلاثون من تعليق العمل في مقر العمل، وانهيت ماراثونان، وأعتقد أن ذلك شيء رائع.
أطباق تذهب، أطباق ترجع
هذه الأيام الجميع يدخل المطبخ أكثر من المعتاد، أنا حزينة لأن محضرة الطعام الرائعة التي طلبتها اون لاين لم تصلني حتى الآن، لم أكتشف الحاجة إليها قبل هذه الفترة، لأنني توعّدت هذه الكارنتينا بسلسلة من الطبخ الاحترافي، لدي قائمة مرضية من الأصدقاء العملاء المستفيدين من هوس الطبخ هذا، لا أعرف كيف سندبر الأمر بعد تشديد الحظر الكلي، لكنني سأستمر بالطبخ على كل حال.
لست من السيّاح الذي يحملون أدلّة إرشادية أو يسجلون مع مرشد سياحي، لست أيضا ممن يجمعون قوائم بأشهر الأماكن أو يسألون عن توصيات لأفضل المطاعم، أبدا … أنا أسافر لأتحرر من صرامة الجدولة، طريقتي بسيطة جدا وهي: المشي! المشي في كل مكان، اكتشاف كل شيء بالصدفة، التعرّف على الأشخاص بالصدفة أيضا، ساعة أبل لم تستطع مجاراة أرقامي في پاريس، كل يوم أسجل رقما جديدا وأكسر الرقم الذي قبله، جميع أحياء پاريس مشيت فيها، وفي كل وقت، أستيقظ صباحا، أرتدي فستانا نهاريا، أتجه إلى الصالون المحاذي للفندق، ثم أمشي..أمشي إلى أن تغيب الشمس، أعود إلى الفندق مشيا أيضا، أغيّر ملابسي بأخرى تضاهي السهر في پاريس، وأخرج لأمشي مجددا، لذلك لا أحب الكتابة عن المعالم الشهيرة رغم أنني بالطبع مررت بها، وأعرف الكثير من القصص، لكن بالتأكيد البروشورات السياحيّة ماكانت لتمنحني ذات القصة التي مشيت إليها مسافة 50 دقيقة من القطعة الخامسة تقريبا إلى القطعة العاشرة لألتقي بأغرب متسوّل لم أتخيّل يوما أن ألتقِ به.
وصلت پاريس في ذروة الإضراب احتجاجا على تغير قوانين التقاعد، المواصلات العامة معطلة، وشرايين المدينة تتفجر من حمرتها على الخريطة، قيمة أوبر بعشرين ضعف مع انتظار لدورك في الركوب يصل إلى الساعتين، كنت موعودة بلقاء مجموعة من الأشخاص أخبروني أن علينا أن نلغي خطط اللقاء لأن المواصلات صعبة، أخبرتهم ببساطة: ابقوا في أماكنكم سأمشي إليكم، وللأمانة كان ذلك فعلا غير محسوب، فهم يسكنون في مكان أقلّ أمانا، وكنت أتوقع ذلك لكن ما أن وصلت حتى خاب توقعي فالمكان بالفعل خطر، كان المكان المحدد جوار بيت الشباب المعروف (Generator Paris) وكنت قد طمأنت نفسي بأنني سأصل إلى مكان مزدحم بالشباب إذن لا مشكلة، لكنهم كانوا هم المشكلة، المكان يحيط به المهاجرون من كافة الجنسيات، يتحركون في مجموعات بشكل مريب ويقتربون من كل غريب لتخويفه، كان المطر قد بدأ بالهطول حالما اقتربت، لذلك بدأ الناس في دخول بيوتهم باستثناء هذه المجموعات المريبة، غربت الشمس بعد دقائق من وصولي، وصلت قبل المجموعة لذلك لم أشأ أن أظهر أنني أقف بمفردي فقررت المشي نحو أقرب مقهى، مشى خلفي مجموعة من هؤلاء، التفت إليهم (أي خدمة؟!) فانصرفوا، تابعت المشي وأخيرا بدأت لافتة المقهى في الظهور، قطع طريقي رجل في أول السّتين من عمره، ظل يقترب مني بلا توقف وأنا أحاول أن أثبت، مددت يدي لأدفعه، لكنني لاحظت جرحا ينزف منه دم طازج أعلى عينه اليسرى فتمهّلت،قال بانجليزية ممتازة: “لا أريد منكِ شيئا، فهذا أول مشوار لي بعد الخروج من السجن، اسبريسّو … فقط أريد اسبريسّو” كونه بادر بالحديث بالانجليزية هذه علامة سيئة فالرجل يعرف أنني لست من مدينته، تجاهلته ومشيت بتباطؤ لأنه بالفعل قد أثار كل مخاوفي ولكن في نفس الوقت أثار فضولي، ألا تريدون أن تقابلوا شخصا يتذوّق الحريّة أمامكم؟ يريدها بنكهة اسبريسّو؟ هل يكذب؟ ربما .. إذا كان خرج بالفعل للتو من السجن فلماذا ينزف وجهه؟ هل هرب؟ اوف! هذه قصة ممتعة أكثر… لقد شاهدت كل حلقة من من سلسلة وثائقيات (هروب ماكر) على ناشونال جيوغرافيك وأعدت كل حلقة على الأقل خمس مرات. لذلك أردت أن أعرف!
فراغات بورنو كاتالانو
لا بد أن صورة لمجسم متجزيء بيده حقيبة سفر قد مرّت بك، في إحدى الليالي وبعد بدء ليلة ماتعة على أضواء المدينة ولمعة إيفل في السّماء، قررت المشي نحو شرق المدينة، بدون هدى، الأضواء خافتة والمعالم شبه مختفية، وقبل أن أصل إلى ساحة الباستيل مر بمحاذاتي مجسّم غريب، قررت أن أبتعد لأراه بوضوح، وهذه أجمل مفاجأة، بدون قصد وجدت نفسي عند معرض دو ميسيز ، جوار بيت فيكتور هوغو، وظهر المجسم البارع أمامي، الذي هو أحد أعمال بورنو كاتالانو
الثيمة الأساسية لأعمال بورنو هي السفر والترحال، وتجزؤ الإنسان كلما عبر، تنتشر تماثيله في عدة أماكن وتتم محاكاتها بذات الفكرة، كتل من الفراغ يحيط بها جسد مرتحل، حيث تبقى الحقيبة مجرد كيان مكتمل غير متفاعل، يأكل الترحال من وجود هذا الجسد، بالبرونز – وكما أراه- كان كاتالانو ينحت الفراغ لا الجسد، الفراغ هو موضوع الفكرة الفنّية هنا، كاتالانو نفسه اضطر إلى الترحال ليجمع رزقه ورزق ابنته، كما يفعل أيّ فنان لم تتقبل حتى عائلته ولعه بالفنّ والنحت (كعملٍ حقيقيّ) ، كانت صدفة أجمل من موعد غرامي أن ألتقي عملا فنّيا طالما فُتنت به.
لم تكن پاريس في إييل دو فغا هي وجهتي التي حجزت إليها، لكنها المدينة التي اختارتني لأكون فيها في الشتاء المنصرم، دون سابق تخطيط وبينما كنت في السّاحة الكتالونية مع جموع مشجعي برشلونة قلت لنفسي: باريس؟ لم لا؟! وهذه ليست تدوينة سفر ولا رحلات، لأن أوّل ما خطر لي هو قصيدة جيمس فينتون ( معكِ في پاريس ) وقد تبدو لك قصيدة رومانسيّة لكنه يقول فيها: “لا تتحدث معي عن الحبّ، فلنتحدث عن [ پاريس ] “
كنت قد امتلأت قلقا مما فاجأتنا به الرحلة من مطبّات هوائية عنيفة، احتبست عيناي دموع قلق حتى امتدت نحو يدي كفّ امرأة فرنسيّة أربعينيّة قالت بانجليزية معطوبة: “لا أعرف الانجليزية لكنني أعرف أن أقول هذا طبيعي ..هذه المطبات طبيعية، لا تخافي” ثم أشارت إلى الصفّ المقابل حيث يجلس ابنها وأمرته بأن يأتي ليطمئنني (شكرا!) ثم قدمتني إلى زوجها الذي استمر في تطميني، وبالفعل بقيت العائلة ملازمة لي، حتى الهبوط، أمرت ابنها أن يحمل لي حقائبي رغم أنني لم أحتج لذلك، وقبل أن نخرج من المطار ونظرا لهذه الحميمية التي بدأت من السّماء، كنت أردد في قلبي: “لا تتحدث معي عن الحبّ؛ فلنتحدث عن پاريس”
في جوار نوتردام أُطلّ شرقا نحو كاتدرائية نوتردام المتهاوية التي احترقت في أوائل 2019، يقابلني نهر السِين الذي يهدر بغزل الصبيان وفساتين الصبايا، أتقدم نحو الفندق العتيق، أحادث موظف الاستقبال المتأنق: لديّ حجز، سألني: هذه العينان من أيّ بلد؟ يبدو أن الجميع في پاريس متأهّب للغزل، جاريته في تلطّفه وناولته جواز السفر، وضعه في جيبه ثم قال: أنتِ محتجزة هنا إلى الأبد! تغامز جميع موظفي الاستقبال من هذه الدرامية في الاستقبال، كان ذلك اليوم يصادف حفل MDL Beast في الرياض لذلك وجدتها فرصة لأفتح جوالي على بث الحفل وأضيف: انظر، جئتكم من هنا. وأعتقد أنني أستحق مكافأة من هيئة الترفيه على هذا التسويق
أن تنتمي …
لطالما آمنت أن الانتماء مختزل في فكرة التشابه، أن نتنمي لمن وما تشعر أنه يشهبك، يشبه عفوّيتك، وحقيقتك، وأحلامك،ذلك المستوى من التشابه الذي تشعر من خلاله أنك تتجزأ فيما تنتمي إليه، ثم تعود وتتماهى فيه، القدرة على الانفصال، والقدرة على الارتباط ، الاثنان معا هم الانتماء، وكل شيء في پاريس كان يجعلني أشعى بأنني أنتمي. سأتحدث في التدوينة اللاحقة عن (حكايا پاريس) أُناسها وأماكنها، وأحداثها، لكنني هنا لا أستطيع أن أتخلى عن رغبتي في الكتابة عما تفعله هذه المدينة بي، المدينة الوحيدة التي أنشغل في رحلة العودة بتصفح التقويم وتقرير موعد الرحلة القادمة إليها، التي يشغلني دائما تجاهها شعور: سأعود إليك!
أنتمي إلى النساء المتأنقات بلون شفاه أحمر، وأنتمي إلى الرجال المصطفّين على جوانب الطريق، كل واحد منهم يخبرني (صباحك حلو يا حلوة!) دون أن يبدو مرتبكا أو مهزوزا، بذات الثقة التي تقف عليها حوائط مونماغتخ Montmartre ، وبالذات الصرامة التي يتجلى فيها قوس النصر.
أنتمي إلى أشجار الشانزليزيه كما كانت بالضوء المحمّر كما يجب في ليلةِ كرسمس، إلى الأغنيات والراقصين، إلى كل شيء أوقفني ليسأل بلطف: من أين أنتِ؟ … أهلا بك! هذه هي الرحابة التي تميّز پاريس وليس الحب، هي مدينة الأهلاً بك! مدينة الابتسامات اللعوبة،والغزل الشّفيف، مدينة النّاس في أجمل تصوراتهم، النّاس …
خرجت من ماراثون مشاهدة مستفز نفسيا لكنه منعش قانونيا، ست ساعات من المشاهدة لمحاكمات قضية غابرييل فيرنانديز، وهي باختصار قضية تعذيب ممنهج تجاه الطفل غابرييل، والتلذذ بتعذيبه من قبل أمه وصديقها، الأمر الذي أدى أن تسكن رصاصتان في جسده، وتنكسر جمجمته ذلك بعد تجويعه وإجباره على الأكل من صندوق فضلات قطط العائلة، وكما تفعل نتفلكس عادة في هذا النوع من الديكودراما، تُسائل النظام؟ الأمريكيون يحبون دائما طرح هذا السؤال- على أي شيء- : هل خذله النظام؟ ذلك سؤال يساري بامتياز، ينطلق من فكرة تتمحور حول دور النظام، حتى في إصلاح المجتمع . فكرة استبدادية ومتطرفة لكن لا يمكنك أن تخطئها أو تصوّبها بسهولة.
كبش فداء العائلة:
“إحداث صدمة للنظام” هو عنوان الحلقة الأولى باعتبار أن إحداث هذه الصدمة هي الأوسيلة الأنجع في توجيه الرأي العام نحو مسائلة النظام وممثليه بما يفترض أن ينتج عنه إصلاح النظام، في قضايا العنف تجاه الأطفال يتدخل المجتمع بشكل أقوى من النظام – برأيي- في تشكيل توجه الأحداث، لذلك أعتقد أن مساءلة النظام هو لعب على الهامش، هل يعني ذلك أن على الخطوط الساخنة للإنقاذ من العنف أن تتوقف؟ لا بالطبع، لا بد أن يكون النظام متدخلا بشكل صارم، لكنني هنا أتحدث عن الفاعلية، قوانين حماية الطفل تبذل جهدا معقولا في تعريف العنف وممارساته وصياغة العقوبات اللازمة، لكن القانونيين يعرفون أن القاعدة الأولى عند صياغة أي نظام هي: أن يكون قابلا للتبني من المجتمع. التبني لا يعني أن يوافق عليه جميع أفراد المجتمع وإلا سيكون القانون عبارة عن أداة تنفيذ بيد الجموع ضد الأفراد، لكن المقصود هو توافر حدّ من القبول المتواطأ عليه بين مجموعة من الأفراد الذي يجمعهم تشكّل معين سواء كان قبيلة أو مواطَنة أو حتى مجرد عائلة.
القوة المجتمعية هي التي تجعل شخصا موبوءا بالكوارث النفسية يكتب في تويتر مثلا: “هذا احنا انضربنا وطلعنا مهندسين مافينا إلا العافية” ، الموبوؤن نفسيا المنتشرون بيننا الذين يرون العنف نكتة تحكيها لأصدقائك، أن الكف الذي فاجأك بك والدك أمام الضيوف في المجلس هو تربية عظيمة، ورغم أنك محمل بالتشوهات في التواصل والتعبير عن الذات والتفاعل مع المجتمع إلا أنك ستقول أخيرا: مافينا إلا العافية! هذه القوة المجتمعية هي التي تجعل الأمر مقبول ومضحك أن يكون في العائلة كبش فداء يتم تعنيفه، أو حتى مجموعة من الأبناء.
#هاشتاق
مع الدخول الجميل للأفلام السعودية على نتفلكس، أودّ لو تأخذ قصصنا المنثورة في هاشتاقات تويتر، المتعلقة بالتعنيف لفتة من صنّاع الأفلام التوثيقية، قد لا تكون القصة مكتملة كما في محاكمات قضية غابرييل، فلن يوجد صحفي استقصائي يقدّم طلبا للحصول على أذونات تتعلق بملف القضية، لكن بالتأكيد لنا حضور استقصائي فريد في تويتر يستحق التوثيق.
لطالما أحببت الشمس وهي تغوص في عمق البحر أو تتلاشى خلف جبل من جبال السّراة الحجازيّة، كانت تلك علامة حماسية لبدء وقتي المفضل من اليوم، المساء، الليل، السّهر. رغم أن المشهد نظريا قد لا يختلف عن منظر الشروق الذي لم أحفل يوما به، من الآخر… لست شخصا صباحيّا، وتقسيمة الأشخاص إلى صباحيين ومسائيين ليست كيليشه، بالنسبة لي هي حقيقة ملموسة، لأنني بذلت جهدا مطولا ومستصعبا في فهم انتاجيتي، وأعتقد أنني أتبعت عددا وفيرا من التكنيكات في إدارة الجهد ( لا تهمني إدارة الوقت وقد أكتب يوما عن ذلك) على كلِ قررت أخيرا أن أستجيب لما يتطلع إليه جسدي، الذي يقاوم منحي مزاجا طيبا وطاقة مرتفعة في الصباح الباكر، مع ذلك أبدأ اليوم سلسلة من سبع صباحات باكرة، اليوم هو الاثنين الثاني من مارس 2020م، وسأسجل يوميا انطباعي الصباحي:
اليوم الأول: محمد عبده يا جماعة! يا مقاهي .. يا عالم!
لم يكن فائض النوم يوما مشكلة بالنسبة لي، أكتفي من أربع إلى خمس ساعات نوم ذات جودة عالية، دماغي يفضل الخمس ساعات حتى أنه يستيقظ منتشيا بشكل مريب (سأحقّق معه لاحقا بهذا الشأن) ، شركة أبل – على نحو غريب- تتفق معي في هذا الأمر، فقد قرأ الآيفون عاداتي (دون أن ألاحظ!) ثم بدأ في تنبيهي للخلود إلى النوم في الساعة الثانية فجرا وجهّز تنبيها للإيقاظ في الساعة السابعة صباحا، أصدقائي الذين يعارضون نمطي المقلّ في النوم أقول لهم: مشكلتكم مع أبل وليست معي.
أستغرق عادة 10 دقائق فقط في التجهّز الصباحي، هذا يعني فائض من الوقت للتورّط به، المزاج مناسب لكنني لا أود استفزازه، أمرّ الصديقة الحُلوة لأخذها إلى العمل (أخبروها أنها محظوظة) ولا يزال الصباح فائضا على شخص مسائي، لذلك قررت ممارسة عادتي المفضّلة: اكتشاف مقهى جديد بالجوار! وقد وجدت مقهى حميما بقهوة ممتازة، وأنا هنا أريد أن أقول لجميع أصحاب المقاهي في العالم: لا شيء أروع من أن أدخل مقهى وأجد (كل مانسنس) في استقبالي، ، الجواب الصحيح لصوت الصباح هو أبو نورة وليس فيروز . هذا صباحي الأول وقد بدأت سلفا في التحدث كخبير، ماشاء الله.
اليوم الثاني: سولفي للنّاس عنّي
لدى الرياض موهبة فريدة في اختلاق الجو الرائع لدرجة مرهفة كروح فنّان أوالجو السيء بشكل يشعرك أن المدينة تعاقبك وكل ذلك على نحو متقلب ومفاجئ، تلك هي موهبة الرياض وأعني “المباغتة”، ورغم أن السلوك الصحراوي حفظناه من الصف الرابع (شديد البرودة شتاء شديد الحرارة صيفا) لكن هذا جزء من خدعة المباغتة، إن هذه القاعدة تبدو دالة بشكل مضلل، فهي لا تخبرك متى الشتاء ومتى الصيف، ماهو الشتاء والصيف أصلا؟ عليك أن تكتشف ذلك كل صباح ومساء وكل حين! أستيقظ اليوم على درجة حرارة 11 مئوية مع شمس ساطعة، هذه التوليفة البديعة “لا هي نار ولاهي ما، ولاهي غيمة ولا سما” تدفعني للتقدير، أتجه إلى الصديقة الحلوة التي تدعي أنني أستغلها في إنشاء عادة الاستيقاظ باكرا، وهذا صحيح يعني لكن “مشّيها طال عمرك”، ثم إلى المقهى اللطيف لأجد صديقة أخرى أحبها، يجمعنا حب الحركة (ولا أريد تسميتها رياضة) وحب المقاهي الأصيلة، أعدّ قائمة قراءات مارس لمشاركتها مع مساعدتي الرائعة التي تريني وجها آخرا عندما لا أنضبط وقليلا ما أفعل لكن على كل حال “يارضاها وقف وناظر شوي” ، يبدو كل شيء هذا الصباح مؤاتيا للانشراح، أحب هذه النوع من المزاج المؤاتي، وهو لا يكون مزاجا محددا لكنه منفتح باتجاه محدد كأول سؤال مؤاتٍ يقابلك في هذا المقهى:
اليوم الثالث: أشياءُ منسيّة
حتى الخبراء يقعون في الأخطاء، استنفذت طاقتي البارحة مبكرا فنمت في الثانية عشرة، ساعتان إضافيتان من النوم كانتا كافيتين للتأثير سلبا في مزاجي، وكنت سأتخطى الحلم المزعج، والاستيقاظ الفزع، والعودة من نصف الطريق لأنني نسيت اللابتوب لولا أن المقهى استقبلني بقائمة أغانٍ شعبية مصرية ثم جورج وسّوف، جراح وخيانات ويا دنيا غدارة …يخرب بيتكم! ماكل هذا البؤس، قائمة الأغاني في المقهى بالنسبة لي هي جزء من تسعيرة الخدمة لذلك لأول مرة انظر إلى الفاتورة وألاحظ أن تسعيرة الكوب الذي اشتريه 12 ريالا، وبدا لي أن ذلك مبالغا فيه، وكأي عميل “نشبة” استأذنت إذا كان من الممكن إعادة تشغيل القائمة المعتادة، وهذا مألوف بالطبع في المقاهي عدا مقهاي المحبب Satan’s Coffee في برشلونة والذي – نظرا لهويّة المقهى اليسارية- كنت قد خمنت مسبقا أنهم سيرفضون طلبا كهذا لكنني طلبته من باب المشاغبة وبالفعل أخبرني الباريستا: لا يمكننا تغيير الأغنية، وعندما ضحكت وسألته: لم لا، فجميع المقاهي تفعل ذلك؟ قال بعناد:”لا لا، لأنه مقهانا نحن!” كشخص عنيد فأنا أحبّ العنيدين، ومالا يفهمه الآخرون أن جزء كبيرا من متعة العناد تكمن في (المقاومة) مقاومة الطرف المقابل لذلك إذا أردت أن تغلب عنيدا عليك ببساطة أن (تسايره) ولا أعرف لماذا أخبركم أمرا سريّا كهذا، على كلّ، الباريستا اللطيف اليوم ناولني جهازه للبحث عن أي أغنية أحبها ظهرت لي بالتأكيد قائمة البحث السابقة بما يعبر عن مزاجات العملاء النشبة الآخرين، وكانت عملية انقاذ مثيرة للعجب والإعجاب عندما تغيرت قائمة أغاني الدنيا الغدارة إلى: “سـَـاري..ساري وأصوّت لك أبيك/ النظرة في عيوني تبيك/ والرعشة في قلبي تبيك/ شعوري ذا الليلة غريب!”
اليوم الرابع: ألوبريجنانولون
اليوم الرابع هو اليوم وليس أمس، فبالأمس استيقظت في الوقت الباكر بنشاط اعتيادي لكنني سألت نفسي سؤالا كان يفترض ألا أسأله، وهو ذات السؤال الذي أكرره كل تلك السنوات الصباحية وهو: ما الجدوى يا بنت؟! طيّب وبعدين؟ هذا صباح إجازة جمعة لذلك لديكم متسع من الوقت لتبحثوا عن ألوبريجانولون، لأنه أجاب على سؤالي وقتها، ووفقا لتوجيهاته السديدة، ورغم مبالغة تنبيهات تطبيق WordPress التي تلح علي بالاستجابة لكنني فضّلت أن أصغي إلى ألوبريجنانولون، لن تتمكنوا من نطق اسمه؛ لا.. لا تحاولوا. ولأنني “بنت كويّسة” أخبرت صديقتي البارحة أنني سأستيقظ اليوم باكرا مهما كان الوضع، لأنني لا أحب أن تسيطر علي لعبة كيميائية، ولأن نمط حياتي محموم طوال الأسبوع فإن الجمعة بالنسبة لي هو يوم شخصيّ جدا، أقل عدد ممكن من الخروجات، اللقاءات، عدم الالتزام، السهر بلا حدود، التمتع بفعل لا شيء، يوم الجمعة هو اليوم الذي استخلصه لنفسي، إذا قابلتك يوم الجمعة فعليك أن تعتبر ذلك علامة محبّة، الأحبّة يتصرفون بحماقة أحيانا وستكون تلك حماقتي، مساء الجمعة يرتبط لدي بالـ(Movie night) مع الأصدقاء في بيتي، ولا أجد فائدة من ربط ذلك بالجمعة فليالي الأفلام نقوم بها معا حتى في منتصف الأسبوع، ربما الفرق الوحيد أننا لا ننظر إلى ساعاتنا في فيلم مساء الجمعة، أيضا يكون هذا الاستخلاص لليوم محملا ببعض المتع الصغيرة في إدارة بيتي، تزورني عاملة للتنظيف، في منتصف اليوم ستفوح رائحة الخبز الشهيّة: ماربل باوند مع صوص الشوكولاته الداكنة (وكيتو أيضا!)، رواية ابنة الحظ لايزابل اللندي، الخروج المحدود للشراء من السوبرماركت مؤنة الأسبوع القادم، فتح الشبابك الواسعة للتهوية، وأخيرا … الاتصال بالعائلة.
اليوم الخامس: منسيّة!
استيقظت اليوم باكرا بالنسبة إلى يوم سبت، عالقة بذهني جملة واحدة متكررة “..not so forgotten” لا أكاد أستحضر مصدرها، فقررت أن أشرع في صباحي إلى حين اكتمال النصّ، يحدث هذا كثيرا لي، أستيظت بجملة مبتورة تدور كدروار البحر في رأسي، غالبا بعد مضي بعض الوقت يكتمل النص الذي هو بالعادة قصيدة سمعتها قبل 10 سنوات، أو سطر من رواية أو مقطع من من سكربت شخصية في فيلم أو أغنية بالطبع، فكرت ذات مرة: على أيّ أساس تختار لجنة الكلمات في رأسي “جملة اليوم” هل لديهم قائمة قصيرة للجمل المرشّحة؟ لا أعرف لكنني أشهد لهم بالبراعة، فغالبا ما تكون الجملة المجتزأة من النص هي الأكثر تحفيزا للذاكرة، والأكثر إثارة للفضول، والأجمل في الوزن والقافية والنغم، هذا ما يجعل التكرار إلحاحا محبّبا إلى حين تكشّف المصدر. قضيت البارحة جولة ماتعة في (الدرعّية) الواقعة في عارض اليمامة إزاء الرياض (المدينة) وهي تتبع الرياض كمنطقة، أحياء بسيطة لكن منظمة، سوق متوسّع للأهالي، مقهى سمره، ولديهم نادٍ رياضي وكانت تلك مفاجأة لي، حضّرت البارحة لصبيحة هذا السبت، حيث أراجع الان خطة الأسبوع مع مساعدتي الجيدة، أراجع مواعيد الاجتماعات وأؤكدها، صبيحة السبت بالنسبة لي إعلان تشويقي لأحداث الأسبوع القادم، وقهوة أكيدة مع صديق لكنه مسافر هذه الأيام، لذلك سنعطي إكسير البن إجازة من ضحكنا (الملعلع) هذا اليوم. لست متحمسة لفعل أكثر من ذلك؛ لكنني أفكر في.. آه لحظة… تذكرت شيئاً: الجملة المبتورة تعود لفيكتوريا إريكسون والنصّ هو:
“Listen to the night as the night knows your truths, your stories, your aches, your dreams, your cravings, your forgotten memories, not so forgotten” Victoria
كان هذا اقتراح مجيد وهو يملأ فراغ هذا الصباح، أمامي قهوة اليوم وماء وغثيان هرموني، وعدة مواد أقرأ فيها، سأوضحها تاليا لكني أولا أريد أن أسأل مجيد: كيف أستطاع أن يعوّل على أصله وطيبه؟ أود لو يتم تصنيف الناس تحت أي سلطة كانت وفق هذا المعيار، أو ربما يمكننا استبدال العبارة التقليدية (العمل تحت الضغط) في سيرتنا العملية إلى (يجيبني أصلي وطيبي) كأحد الميزات الاستثنائية والجاذبة، ما أدري… لكن عليكم أن تكتشفوا طريقة نتستفيد بها من هذا المعيار الخلاق والفاصل في تمايز الناس، يا للناس! المادة التي أقرأها هي في إدارتهم بطريقة الهدف والنتيجة الأساسية وتسمى OK أو OKR – Object and Key Result وهي النسخة الناضجة لاستراتيجية MBO – Management by Objects وتتلخص استراتيجية القيادة بالهدف والنتيجة الأساسية في التفريق بين (Object /Goal – الغاية /الهدف) والفرق الأساسي بينهما أن الهدف يتضمن في صياغته قياسا أما الغاية فهي تحديد عام للحالة التي تريد الوصول إليها، تحسين الصحة العامة غاية، رفع المعدل العُمري للمواطنين بنسبة 1% هذا هدف، ثم تحدد ما يصل إلى 5 نتائج أساسيّة لكل هدف، تكملة للمثال السابق: تطوير نموذج التطعيمات الإجباري للمواليد هو نتيجة أساسية، قد تتطور الاستراتيجية إلى إضافة (Initiative/ مبادرة) لكل نتيجة، مثلا مبادرة مقترحة للنتيجة السابقة: برنامج تواصل مع الوالدين لمتابعة تنفيذهم وتوعيتهم بالتطعيمات، هذا تطبيق على المستوى العام، يمكن أيضا تطبيقه في الشركات، وحتى على الأفراد رغم أنني قرأت عدة مواد لا تؤيد تطبيقه على الأفراد، وتلك مفارقة إذ أنني لم أسمع عن هذه الاستراتيجية إلا في سياق تطبيقها على الأفراد، في بودكاست نيويوركيّ تقول مقدمته أن هذه الاستراتيجية تساعد الفرد على التركيز العالي كما أن محورها هو (Measure what matters) ويبدو أن هذه الإضافة على الاستراتيجية كانت من كيس المقدمة لكنني أشكرها على توسيع الآفاق، توجد أداة الكترونية لتنفيذ هذه الاستراتيجية هي Predoo في حال أعجبتكم وأردتم تطبيقها، لكن بالنسبة لي سأكتفي بأصله وطيبه
اليوم الأخير: *صوت المُنبّه*
عندما بدأت التدوينة لا أعرف لماذا اخترت الرقم سبعا لتوثيق الصباحات التي من المخطط لها أن تستمر حتى آخر مارس فحسب، هذا هو التحديث الأخير لهذه التدوينة. في كل يوم صباح كنت أنتهي من قضاء الساعات المبكرة ثم أفتح المدونة وأشرع في الكتابة مباشرة قبل التوجّه إلى منطقة عملي، بدون أي تحضير أو تخطيط، لقد أردت لهذا التسجيل الصباحي أن يكون انعكاسا طبيعيا لما أشعر به لحظتها، ولم أكن متطلبة تجاه نفسي بالحصول على صباحٍ رائع أو مختلف، أردت لهذه التجربة فقط أن تكون (استيقاظا مبكرا) وهي جزء بسيط من تجربة أكبر خصصت لها شهر مارس، ولا أعقتد أنني سأكتب عن هذه التجربة الأكبر.
أسميت تحديث اليوم بـ (صوت المنبّه) رغم أنني لا أستخدمه فعليا، ولا أدري كيف سأقنعكم بذلك لكنني أستقظت في الوقت الذي أريده عندما أقرر ذلك قبل النوم، ودون الحاجة للمنبه، الاستثناءات النادرة التي أجهز فيها المنبه هي عندما تكافئني دورتي الهرمونية بنومٍ جزيل وعميق ومذهل، فأعرف بالتجربة مسبقا أن جسمي لن يضع أولوية للاستيقاظ فوق احتياجه الحميمي، أحترم اختياره بالتأكيد، هل تصغون لأجسادكم؟ ماتّ دي فالا المدوّن اليوتيوبي هو أحدنا، المدونون الكاشفون عن تجارب متعددة لغرض التجربة، في تلخيصه لتجربة (استحداث 12 عادة جديدة في 12 شهر / سنة) ، كان أحدها عادة الاستيقاظ فجرا- بالنسبة لإنسان ليليّ- فذلك تحدٍ، يقول أن نتيجة تجربته كانت مفاجئة فالعادات التي يتم الترويج لها بأنها عادات الناجحين أو أفضل استثمار للوقت والطاقة ليست بالضرورة شائعة أو حتى صحيحة، أحدها تجربته في استحداث عادة الاستيقاظ فجرا حيث كان متأكدا أن هذه العادة ستغيّر حياته للأفضل،ستضاعف من طاقته وإنتاجيته، الذي حدث هو العكس تماما، يمكنك أن تشعر بالنشاط في اليوم الأول أو الثاني لكنك ستصل إلى نتيجة يشعر فيها جسدك بالاستنزاف ويعطيك أقل معدل طاقة لليوم، ستضطر لشرب الكافيين متأخرا، ستعاني الأرق، وستدخل في دائرة متكررة من هذا النمط، يقول مات: أنه أصبح أكثر تقديرا لطبيعة جسده، وتخلّص من اتهام نفسه بالكسل لأنه يستقظ متأخرا بساعتين أو ثلاث عن “الصباحيين” أنقل تجربته لإثراء الفكرة، لكنني أعرف ذلك سلفا، فليست هذه المرة الأولى، ولم يكن غرضي تحفيز الطاقة، فأنا أعرف دائرة الانتاجية اليومية عندي وأعرف ذروتها، هدفي كان مختلفا، وأعتقد أنني بدأت ألمس نتائجه من اليوم السادس تقريبا. هذا الصباح كان أحد الصباحات التي تمنيت فيها لو ألغي جميع الاجتماعات العملية، وأغوص في فراشي لآخر اليوم، ورغم أنني أملك خيار ذلك وبدون أي عواقب مزعجة، لكنني اخترت أن أنهض، وتركت الباقي على قهوة دانكن.
عندما كنت أفكّر في تدوينة السبت،
ليست هذه هي الفكرة التي جالت بخاطري، ففي منتصف هذا اليوم حدثت لي حادثة مزاجيّة غامضة
تعثر فيها مزاجي بشكل حاد، استغرقت في الحزن وفي الألم من شيء لا أفهم مصدره تماما،
وإن كان يمكنني تخمين تداعياته، صرت أدور في شوارع الرياض بلا هُدى، أريد لهذا
المزاج الرديء أن ينضبط، استدعيت قائمة التحسين الطارئة: أغاني أحبها، محادثة
الأصدقاء، مقابلتهم، كل ذلك لم يجدِ؛ هذا يعني أن عليّ اللجوء إلى قائمة التحسين
الأكثر تعقيدا
كلنا نخوض تجارب أمزجة رديئة تداهمنا بلا موعد؛ عندما أتصفح دفتر يومياتي أجد عددا من الأيام البهيجة، وعددا من الأيام الصعبة (أحدها صورته مرفقة بهذه التدوينة)، كلاهما يتطلبان منا استجابة نوعية لمعالجة التجربة بأقل قدر من الأضرار، قد تكون الأسباب بيولوجية بحتة: نوم متعكّر، دورة شهرية (تحدث للرجال أيضًا – اقرأوا فيها) ، إفاضة هرمونية من أي نوع آخر، طعام لا ترحب به أجسادنا، هذه الأسباب البسيطة التي لا نلقي لها بالا قد تكون محركا أساسيا في مزاجنا اليومي، ناهيك عن التدخلات الخارجية. كلنا نختبر ذلك لكن ليس جميعنا يعي به، أعتقد أن الوعي بأنك تمر الآن بمزاج رديء هو الفارق الفاصل في تحسين جودة حياتك، يليه تطويرك لسلسلة من الاستجابات النفسية والسلوكية التي تساعدك على تخطي هذه الأوقات، ولعن الظلام بالمرة، في حال لديك خطة انقاذ لمزاجك سأمتن لو تكتب عنها في مدونتك أو تكتبها لي، هذه خطتي:
الاعتراف:
ذلك أحد مراتب الوعي، أتوقف فورا
عن المحاولات المستميتة في تحسين مزاجي، أتوقف للحظة أخبر نفسي فيها أن هذا الوقت
هو أحد الأوقات الصعبة، أنه سيمرّ ، أن عليّ أن أستضيفه وأتركه يعبر دون مبالغة في
المقاومة.
لا بأس بالحزن:
لا أطالب نفسي بالانشراح المطوّل أو الانفتاح
الاجتماعي تجاه اللقاءات (العزائم)، أقوم بإلغاء الارتباطات القريبة (خلال اليوم
الأول من المزاج الرديء) تلك إحدى دفاعاتي الفعالة، لأنني لا أجيد التزييف، عندما
تلتقي بي وأنا حزينة، سترى ذلك بيانا، وأنا لا أريد أن أضع نفسي في موقف أشرح للآخرين
حالة مزاجية أنا نفسي لم أفهمها بعد، هل يجب أن أفهمها أصلا؟ لا. إذن لا بأس، سأقضي
وقتا في اختبار الحزن الشفيف
تحديد المدة:
وهذه مرتبطة بالنقاط السابقة
والنقاط التالية، من المهم جدا التعامل مع التقلبات المزاجية باعتبارها حالة مؤقتة، الاستغراق
فيها قد يقودك إلى الاكتئاب، بالنسبة لي لدي عهد قطعته على نفسي منذ 9 سنوات، ألا
أضع رأسي على وسادتي وأنام إلا وأنا هانئة
وأشعر بالراحة، ليس بالضرورة البهجة والسعادة، إنما الراحة، التسليم، الانسجام.
لذلك يوم واحد فقط هو المدة القصوى لاستضافة الأمزجة الرديئة، قد أصحو بشكل غير
مطمئن، لا بأس يوم آخر أبدأه من جديد، وأنهيه بذات الطريقة.
مراقبة النمط:
مثلا: الإفاضة الهرمونية لديها
نمط، يتأثر المزاج بفعله، لدي تطبيق لمتابعة نشاطي الهرموني، أغذيه بالبيانات التي
استخدمها لاحقا في تفسير مزاجي عندما لا يبدو مفهوما، إدراك هذه الحقيقية الطبيعية
حسّن نوعيا جودة حياتي، حتى أنني بدأت أتابع لأصدقائي أنماطهم: لقد أخبرت صديقي
ذات مرة هذه الجملة: في آخر 10 شهور، كان مزاجك يتقلب ويسوء من اليوم السابع عشر
حتى الواحد والعشرين. وأخبرته أنني سجلت تاريخ كل مرة جائني فيها منهارا كارها
لحياته ووظيفته وكل خياراته. ( تحمست : )
) فعلت ذلك لأقنعه بأهمية مراقبة النمط.
التخفّف من المسؤولية:
لا شيء في الدنيا يعادل صحتك، ولا
أفهم لماذا حتى الآن يتم منح الإجازات المرضية فقط للتعب الجسدي، بالنسبة لي أحاول
إشاعة ثقافة الصحة النفسية في كل مكان أعمل فيه، عندما أحتاج إلى الراحة أخبر
الفريق بأن ذلك لمصلحتي النفسية. وكشخصٍ كمالي (Perfectionist
) كنت
أجد صعوبة في تخطي فكرة تعليق الأعمال، لكنني تجاوزتها عندما أعليت من قيمة صحتي.
التوقف عن حسم الأمور:
مادام ذلك لمدة محددة، ما الضير
في أن تدع نفسك تختبر هذه الحالة؟ دع الأمور تمضي، ليس ضروريا أن تقرر اليوم هل
أنت في الوظيفة التي تتمناها، هل شريكك هو الأنسب لك، هل أصدقاؤك داعمون كما تحب،
هل أنت في مقام أقرانك، من طبيعة الأمزجة الرديئة أنها تفتح لك جميع الأدراج للملفات
الشائكة، وتشعرك بالضرورة، ضرورة أن تفعل شيئا، حسنا .. لا تفعل أي شيء!
هدر الوقت:
اسمح لنفسك بممارسة كل الأمور التي لا تعتقد
أنها هادفة، اقطع التزامك الغذائي الصحي، اكسر روتينك، يوم أو يومان لن تنتهي
فيهما الدنيا
أشياؤك المحبّبة
في مقابل السماح للمزاج السيء في أن يكون، عليك أن تخلق مزاجا مقابلا للأمور التي تجلب لك الراحة، وأن تستدعي أشياءك المحبّبة، يجب أن تحتفظ بها كقائمة مكتوبة: مشاهدة فريندز أو ساينفيلد، المشي، الانجاز مهما كان صغيرا، القراءة، وجبة برسكت طري،، احتضان من تحب، بدء مسلسل جديد على نتفلكس …
قم بتغذية روحك بأنشطة تساعدك على رؤية الحياة من جانب آخر؛ هذه ليست كل الخطة التي أمارسها، لكن ذلك يكفي الآن، لأن غرضي من التدوينة كان الكتابة عما أشعر به لأتخطاه، وأعتقد أنني تخطيته عند هذا الحد من الكتابة … مساء بهيج.
لماذا يحب كثير من الأشخاص إحاطة أنفسهم بهالة “أنا مشغول” عندما تسأل: كيف العمل معك؟ يندر أن تحصل على إجابة: “تمام.. رائع، أنا مبسوط” يبدو قالب الإجابة للسؤال هذا هو: “اوف! مشغول.. ضغط والله” لا تقلق على صديقك عندما يجيبك بهذه الإجابة فغالبا هو يقولها مدفوعا بالأدرينالين لا الحقيقة، في كتاب (خياراتٌ خمسة: طريق الانتاجيّة الاستثنائية) يتحدث مؤلفو الكتاب عن (إدمان الحالة الطارئة)
روعةُ الأدرينالين:
إذا أردت أن أصف المادة الكيميائية الحميمة في أدمغتنا “الأدرينالين” وفاعليتها لشخص غير متخصص سأقول هو: الشعور العارم باللذّة الفائقة في لحظة خاطفة!
هذا الوصف يجمع لك ثلاث امتيازات تتجلى في هذا الشعور وهي: التدفق الشامل، الحِدّة ، السرعة في الإستثارة. والآن: من منّا لا يرد الشعور بهذه الروعة! بالضبط .. لذلك يقف الأدرينالين خلف عاداتنا الإدمانية التي ننتقل من فعلها بوعي إلى فعلها وفق نمط متكرر يكاد يفلت من سيطرتنا. الخدعة هنا أن هذه اللعبة الكيميمائية الممتعة مرتبطة في تطورنا بشعورنا بالخطر، فهي السبب الأصيل في أننا نهرع لإنقاذ أنفسنا بشجاعة في مواقف لا نتصور أننا سنصمد فيها. لكن ما علاقة ذلك بالعمل؟ إن روعة الشعور بالخطر – كما يقول الكتاب – تدفعنا إلى “تزييف شعور الحالة الطارئة” لإثارة الأدرينالين. ذلك ما يجعلنا متعطشين للشعور بأننا مشغولون بشكل دائم ومستمر، مضغوطون، وأن مهامنا متكدسة وعلينا أن ننجزها .. الآن وفورا، يريد أن يقنعك دماغك المدمن أن العمل “حالة طارئة!” وأي سؤال عنه هو فرصة ذهبية لإثارة ذلك الشعوة العارم باللذة الفائقة في لحظة خاطفة!
إدمان الحالة الطارئة وتباطؤ الانتاجيّة:
يؤثر إدمان الحالة الطارئة على الانتاجيّة سلبا من ناحية أن هذه
الاستثارة لها طابع الإيجاز، بالتالي ستظل تلاحقك المهام المفتتة الصغيرة التي تشعرك
بأنها طارئة لكنها ليست ذات أهمية حقيقة في مسار عملك، كما أنك تنجزها بسرعة مخلة
بالجودة لأنك تطارد مهمة أخرى جديدة ومختلفة وموجزة أيضا، يصنّف الكتاب هذه المهام
الإيجازية بأنها ضمن فئتين : المهام المشتتة، والمهام المُهدرة.
المهام المشتِّتة مثل: المقاطعات غير الضروية في بيئة العمل، كتابة تقارير غير مهمة، ترتيب اجتماعات عشوائية، الاهتمام المبالغ فيه بأمور زملائك الهامشية، الاستغراق في الإيميلات غير المهمة، الاتصالات ..وغيرها، وهي المهام التي لها طابع مهام عملك وتبدو مؤثرة ولها عائد محدود لكنها في الحقيقة ليست ذات قيمة في انتاجيتك، لذلك ستحتاج إلى مزيد نباهة وإرادة لتمحيصها من بين مهامك الأخرى اللازمة.
المهام المُهدرة هي التي يكون عائدها صفرًا على انتاجيتك وعملك بشكل صريح، مثل: الإفراط في الاسترخاء، تجنّب الأنشطة، هدر الطاقة في نميمة الزملاء، ونحوها.
إن إشكالية الانغماس في هذين الفئتين من المهام أنها محفّزة للأدرينالين، وتساعدك على مزيد من التأجيل للأعمال الحقيقية ذات القيمة المضافة مما يغذّي كونك في “حالة طارئة” حيث دائما هناك المزيد من الأعمال التي تنتظرك لانجازها، لذلك ستستغرق في المزيد من المهام المشتتة والمهام المُهدرة، هذه هي الجرعات التخديرية اللذيذة.
*we are a culture of people who’ve bought into the idea that of we stay busy enough, the truth of our lives won’t catch up with us*
هل من الخطأ أن تكون مشغولا؟!
بالطبع لا! إن الأعمال الواقعة في فئة أعمال “الانتاجيّة الاستثنائية” من الممكن أن تبقيك مشغولا جدًا، مثل: ممارسة العمل ذو الأثر المرتفع على أهدافك وأهداف مؤسستك، التفكير الخلاق ، التخطيط، الأعمال ذات الصبغة الإبداعية، المبادرة، الأعمال الوقائية (الاستباقية). بناء العلاقات، التعلّم والتطوير. تمتاز طبيعة الأعمال في هذه الفئة بأنها مهمة لكنها غير طارئة، هذا يعني أنك تكون في حالة تمتلك فيها زمام أمورك و”تختار” أن تفعل الأشياء التي تصبّ مباشرة في أهدافك بدل أن تبقى “مستجيبا” للحالة الطارئة، العائد المتوقع لهذا الأداء غير العادي هو الحصول على الانجاز وتحقيق النتائج، إنّ الفرق الجوهري بين أعمال هذه الفئة وأعمال الفئات الأخرى، أنك هنا تسعى لعمل ما تود فعله تماما، بينما في حالة الأعمال المشتتة والمهدرة أنت تترك الأعمال تأتي إليك ويقتصر دورك على الاستجابة لها وتغذية الأدرينالين المتدفق. ماذا عن الأعمال (المهمة والطارئة؟) تخبرك عدد من تكنيكات إدارة الوقت أن تمنح هذه الفئة أولوية ، ليس الحال هكذا على الدوام! فالانغماس في الأعمال المهمة والطارئة سيجعلك تنجز المطلوب فحسب، بمعنى ستكون انتاجيتك وفق المتوقع والمعتاد، لكننا نتحدث هنا عن الانتاجية الاستثنائية
فلو أردنا حساب العائد من كونك مشغولا بكل فئة فسنحصل على ما يلي:
Necessity = Break Even Distraction = Negative Return ! Waste = Zero Return Extraordinary Productivity = Exponential Return
الأعمال الضروريّة = عائد معادِل الأعمال المشتتة = عائد سلبي (يوجد عائد لكنه بلا قيمة إضافية) الأعمال المهدرة = بلا عائد الانتاجية الاستثنائيّة = عائد مضاعف
الخلاصة: يمكنك دائمًا أن تستفيد من الشعور بلذة الأدرينالين عندما (تختار) أن تستفزه بالأعمال الإبداعية وتحليل المشكلات وتخليق الحلول عوضا عن الركون إلى استفزازه بتوهّم الحالة الطارئة.
ما الذي يحدث كلما (تعشّمت) في شيء وطال زمن حصولك عليه؟ …
تزهد فيه أو تعافه في الغالب، مهما كانت شدة رغبتك فيه، ذلك أبسط ما يفعله الفارق
الزمني بين الرغبة والحصول، أشغلني لفترة ما يمكن أن يحدثه الزمن فقط بعبوره، خاصة
فيما يتعلق بالتواصل بيننا، امتدادا لما ذكرته في التدوينة السابقة، فإنني أؤمن أن
(التزامن) هو احتياج لحوح في علاقاتنا وكلما افتقدناه كلما فقدنا من صحة هذه
العلاقة.
أقصد بالتزامن هو التواصل مع الشخص في المكان والزمان نفسه، هنا والآن، ، أنا من الأشخاص الذي لا يعرّفون البُعد والمسافة بأنها “فارق التوقيت” وليس الجغرافيا، فارق التوقيت هو الذي يجعل التزامن مختلا بين الطرفين، هو النقطة الحرجة.
كتابة، إرسال، تحرير …ديليت !
ها نحن اليوم لدينا
فرصة للتعبير والتحرير وفرصة
الحذف، وميزة معرفة كون الرسالة مقروءة والشخص موجود في اللحظة أم لا ( واتساب
يعطيك مستويين من مقاربة التزامن : الاستلام ، القراءة ) ، والسؤال: هذا كان ذلك
مبالغا فيه؟ هل يجب أن نحصل على كل هذه الفرص في الحذف والتحرير في حالة التواصل
الصحي والسليم؟
برأيي؛ نعم كل ذلك مبالغة، أقاوم نفسي
في استخدام هذه الخواصّ لأنها تقلل من امتياز التواصل التعبيري، فأنا عوضا عن حذف
الرسالة في واتساب مثلا؛ أقول للشخص: أشعر برغبة في حذف ما أرسلته، أود لو أنني لم
أقله! أو أقول: عذرا أرسلته بالخطأ. لا أفعل ذلك دائما لكن في معظم الوقت، وهكذا؛
برأيي فإن التواصل مع الأشخاص عن طريق استغلال هذه الأخطاء أو التراجعات هو تواصل
أكثر إثمارا من استعمال الخواص التقنية في الحذف. وهذه أبسط فائدة. بالنسبة لي فإن
غايتي العليا هي الحفاظ على التزامن، وهو ما سأسرده في أفكار مترامية هنا باختصار:
محاكاة التزامنية: خواص الإعلام بالاتصال (online)، بالتفاعل (Typing…) ،بوصول الرسالة، التنبيه عند التغريد، التنبيه المخصص، تحميل برامج لتخترق ما يحجبه الشخص من معلومات، وفي المقابل تحميل برامج لإخفاء الحالة، “خلينا نشغل الفلم مع بعض”، الايموجي ، هذه كلها محاولات تقنية لخلق حالة تزامنية بين الطرفين، ذلك ما يجعلنا مدمنين لها، شعورنا بأنا نحاكي (هنا والآن) رغم بعد المسافة.
شخصيا أشترط التزامنية ونقل مستوى التواصل في حالة تطور العلاقة ، إذا كان الطرف المقابل غير مستجيد للتزامنية فإن تلك هي نهاية ما لدي معه، ذلك مفرق الطريق، أنا لا أطيق تواصلا غير متزامن.
هناك احتياج للشعور بأن الطرف الآخر يقوم ما يقوم به في اللحظة التي تعرفها أنت، أسمي بذلك باختبار التزامنية معا، حتى لو كنا منفصلين مكانيا فإننا على الأقل نشعر باللذة أننا نشاهد نفس الفلم في نفس اللحظة، ذلك لا يكون إلا من الشعور (هنا والآن)
عندما يتصل بك شخص فترسل له: أنا مشغول؛ سأتصل بك لاحقا. هل تسائلت لماذا تضع آبل هذه الرسالة الافتراضية مع خيار رفض الاتصال؟ خيار رفض الاتصال نفسه هو شعور بالتزامنية،فأنت تقول بذلك: لقد سمعت اتصالك “الآن”، لكنني مشغول وأريد أن تعرف ذلك الآن أيضا
لماذا يهرب الناس من التزامن؟
هل شاهدت ميم (Meme) يتحدث عن المعضلة مع أولئك الذين يتصلون عوضا عن الإرسال؟ لماذا يشعر هؤلاء أن التزامنية معضلة، وعبء نفسي، ونوع من التطلّب؟ برأيي أن الإدمان على الخواص التقنية التي تمنح خيارات التحرير والتخفي هي التي شوهت قدرة هؤلاء على أن يتقبلوا الحضور الآني، الاتصال، وجعلتهم يشعرون بالذعر إذا كان الشخص المقابل متصلا في ذات اللحظة التي يكتبون له فيها، هذا لا يمكن أن يكون تواصلا طبيعيا!
مالذي تخسره بغياب التزامن:
الخسارة
هي: الحكاية المشتركة ؛ أعني بذلك أننا متفوقون في صياغة الحكاية المنفردة،
التزامن يجعلها حكاية مشتركة مع طرف آخر، لا يمكنك أن تقول (شاهدنا الفلم معا/
سهرنا معا) إذا كان أحد الطرفين غير متصل أو غير موجود! هل تغلب حكاياتك المنفردة
حكاياتك المشتركة؟
استخدام التزامن للتلاعب بالآخرين:
أصبحنا نرهب الحضور، تظهر لدينا مشكلة ال” أعرف أنك قرأت رسالتي فلماذا لم ترد؟” حتى أن الناس أصبحوا يستخدمون تلك الميزة التقنية في التلاعب بمشاعر بعضهم البعض، تريد أن تؤذي شخصا وتدفعه للشعور بأنه أقل أهمية، بأنه متروك أو مهمل؟ دعه يعرف بأنك قرأت رسالته، دعه يعرف لأنك لا ترد عمدا؛ دون أن تكتب حرفا واحدا، إن مجرد التلاعب بقوة التزامنية كاف لإيذاء شخص ما، أعتبر هؤلاء الأشخاص يفتقدون للحسّ الإنساني في أدنى مستوياته، مع ذلك أعتقد أنها ميزة الكترونية ، إنني أحترم حقّك في التنازل عن التزامنية، لكنني في نفس الوقت أعتبره تنازل أخلاقي، أنا شخصيا أتنازل عن حق التزامنية، لكنني أضع تنبيها للطرف المقابل من قبيل: “أحتاج وقتا أطول للتفكير”، “مالي نفس أتواصل مع أحد الآن”
يمكننا أن نملك كافة الأدوات التقنية للكتاب، للإرسال والتحرير، للحذف، لكن هل مازلنا نسيطر على مفاهمينا الصحّية في التواصل؟
في السادس والعشرين من أكتوبر2017م اتخذت قرارا بالتوقف تماما عن بناء المزيد من الصداقات/العلاقات البعيدة أو الالكترونية، بأثر رجعيّ محدود حيث خرجت من الصداقات القديمة التي تأخذ ذلك الطابع والتي لا يهدف أطرافها إلى التلاقي المتكرر. كان هذا القرار بمثابة الانفراجة النفسيّة إذ أنني لا أجد نفسي متمتّعة بهذا النوع من التواصل المجزأ محدود السياق (نصّي/صوتي) لكنني ظللت أقاوم هذه الانزعاج وحاولت دفعنه بل مساءلته: لماذا علّي أهتم إلى هذا الحد بالحضور الفيزيائي/الجسدي؟ هل أبالغ؟ لكنني أخيرا قررت أن أستجيب لرغبتي والحصول على مزيد من الراحة والانطلاق والانسجام بين ما أرغب فيه وما أمارسه. ولأجعل حديثي أكثر دقة فإنني أقصد بالصداقات البعيدة/ الالكترونية هي تلك العلاقات التي يغيب فيها الحضور الجسدي سواء في شكل لقاءات أو تواصل أكثر حميمية وسواء كان البديل لذلك هو التواصل النصي/الصوتي أو حتى اللقاءات المتباعدة بحيث أفقد روح التزامن (تدوينتي السبت القادم هي تفصيل لموضوع التزامنية هذا) إذ أنه -الآن- لا فرق عندي بين صديق أو صديقة تسكن بالجوار مني لكن نمط حياتينا متغايرا إلى الحد الذي لا يوفر لقاءات ترددية بحد معقول وبين الصديق/الصديقة التي تسكن آخر الدنيا وليس بيننا إلا تويتر أو واتساب، كلاهما مرفوضان، أو بعبارة ألطف: لا أستطيعهما.
التواصل الالكتروني/المتباعد…. كان حلا مخادعا:
طفلة نشطة للغاية، ستراها تشارك في كافة أنشطة المدرسة، تكتب المسرحيات وتمثلها وتخرجها، ترتب للاحتفالات وكل شيء صفّي ولا صفّي تنجزه، بالغة تنزع إلى الحركة والتحليل والانتاج، كنت دوما ذلك الشخص الذي يظنه الجميع اجتماعيا وودودا، لكنني في حقيقتي كنت -ومازلت- ذات طاقة محدودة عندما يتعلق بالأمر بالتواصل الثنائي مع الأشخاص أو المجموعات الصغيرة، حيث تتضاعف المسؤولية (الاجتماعية) في التواصل مع أطراف المجموعة، إنني قد أكون كل شيء إلا أن أكون “شخصا اجتماعيا” ، كنت -ومازلت- إنسانا ينزع إلى الانطوائية، وكل ذلك النشاط الخارجي كان استجابة لقيمة الحضور الجسدي لا لبناء العلاقات، بمعنى أنا أشارك في المسرحيات لأنني أحب تهيئة جسدي وفق إيماءات الدور المنصوص، ليس لأنني فتاة اجتماعية تريد بناء صداقات مع الجمهور المفترض! إذا كنتَ قد أدركت الفرق الخفيّ بين الاثنين فلأنك غالبا صديقي في هذا النادي، حيث ستحتاج إلى تجربة ذاتيّة لإدراك ذلك. على كلٍ، كان ذلك -ومازال- يورّطني .. حيث أن نزعتي الانطوائية لا تريد بل وتعجز عن مواكبة كل هذه الجموع البشرية التي ألتقيها بحكم نشاطي الجسدي، لذلك كان الإبقاء على المسافة وقصر التواصل على المحادثات الالكترونية مفيدا لي ويمنحني مساحة للتنفّس، لكنني دون أن أشعر ضللت الطريق…
العودة إليّ …
عندما تكون الثقافة السائدة الأبوية تعرّف جسدك كأنثى بأنه بحد ذاته مشكلة! زخم الأفكار المروجة الثقافية والدينية تجاه جسد الأنثى باعتباره محط الخطيئة والفتنة وتقطع الصلاة ويستشرفها الشيطان، وخرافات الشرف، كل هذه الثقافة تجعل علاقاتنا كإناث بأجسادنا مضطربة فضلا عن التعايش الجسدي مع الآخرين (حتى في غير السياق الحميمي- تعرف الفتيات أن مدارسهن كانت تجرّم احتضان الصديقات والمشي متجاورين بأكفّ متشابكة حيث يصنف ذلك كعيب اجتماعي ومخالفة مدرسية!) ، غير أنني – ولحسن الحظ- لم أنظر يوما إلى جسدي سوى أنه مكاني وأرضي الخاصة بي ولا أحد سواي، ولا أعتقد أنني أكتسبت هذه النظرة بقدر ما أنني وجدت نفسي عليها كما أن انطوائيتي ساعدتني على الإصغاء لنفسي، لروحي، لجسدي على السواء وحمتني إلى حد كبير للغاية من هذه الأوبئة الثقافية ، ذلك ما جعل احتياجي إلى الحضور الجسدي في صداقاتي صريحا وصارخا، ومستغربا ومحكوما عليه من قبل الرفقاء حولي، لكنني أتفهم ذلك بالطبع. حيث تسألني زميلة: لماذا أحتضن الغرباء بدلا عن مصافحتهم؟ أخبرها أنني ببساطة أحب ذلك وهم يستلطفونه فما المشكلة؟! والدي علمني ذلك، – كجنوبيين- نحن نقدر التعبير الجسدي، نقدر القبلات والاحتضان وملامسة الأيدي، وذلك جعلني منفصلة إلى حد مزعج عن الثقافة السائدة في المكان الذي كوّنت فيه صداقات متباعدة أو يكتفي أطرافها بالتواصل النصّي مثلا، لا… ليس أنا، عموما …كنت أقول أن انطوائيتي وجدت هذه الثغرة في النظام الاجتماعي، فاستوطنتها، بالغت كثيرا في هذه الصداقات المتباعدة مما أبعدني عن حقيقتي، التي تفضل التواصل الذي تحضره فيه جميع الحواس، ويكون الأصدقاء فيه ملء السمع والبصر .. والأيدي أيضا!
لماذا؟!
أنا لا أنوي إقناع أحد بهذا النمط من التواصل المشروط بإمكانية الحضور الكامل، كما أنني لا أنوي إلقاء موشح عن عجز التواصل المتباعد أو الالكتروني عن تلبية احتياجاتنا في بناء نظام اجتماعيّ داعم من شبكات بشرية متنوعة ، لكنني أود أن أختصر معظم ما أستفيده من هذا النمط، ما يجعلني أصرّ عليه – رغم أن كونه ملازم لحقيقتي وطبيعتي أمر كافٍ – لكن بالإضافة إلى ذلك:
التواصل متعدد المستويات: في التواصل الالكتروني نحن محدودون بالقاموس اللغوي وبقاموس الايموجي، في التواصل الجسدي الكامل، تنطق الإيماءة والنظرة واللمسة وصفّ الأسنان في الضحكة ويستجيب شعورك لتجعيدة العينين عند تبسم الطرف المقابل لك أكثر مما يفعل الإيموجي.
الذاكرة المكثفة: اجرِ حوارا حميميا مع صديقك على واتساب، بعد فترة ستتذكر الكلمات، اجر ذات الحوار في لقاء على صوفا تجمعكما بعد فترة ستتذكر المكان، وشعاع الشمس الذي قسم الطاولة أمامكما إلى نصفين وتتذكر الظل بإزائها، ستتذكر اللحظات التي سكت فيها ليلتقط أنفاسه أو عندما نظر إلى جواله، ستتذكر إحساسكما بالجوع في نهاية الدردشة والبحث عن عشاء متأخر في هنقرستيشن، فضلا عن نبرة الصوت و(الهاي فايف) ، إن العلاقات تنمو بالتصاعد على هذه الذاكرة، فاسترجاع الذكريات يكون ألذ وأشهى وآكد وأبلغ إذا كان مقرونا بكل ذلك، ستحكي يوما: عندما كنا جالسين في شقتي و”سولفنا” حتى الفجر ثم وجدنا المطاعم مغلقة.. هكذا ستكون القصة في قلبك، برأيي هذا أروع بكثر من: تذكر لما كتبت لي كذا … انتهى! (الان يمكن الاقتباس الكترونيا .. لن تضطر حتى لإعادة تذكر ما قاله)
تعدد التجارب: التواصل الجسدي يستدعي الحصول على مساحة، ذلك يعني ترتيبات تتعلق بالبحث عن أماكن متعددة ( وربما سفر ودول متعددة) هذا يعني أن العلاقة ستكون زاخرة بالتجارب المشتركة، كيف يمكن ألا يكون هذا الأمر رائعا؟!