عشرون سيرة ذاتية| 5 الذاكرة التعبيرية – سيمون دو بُوفوار

… الكتابة كفعل منجاة لم تكن غايتي في فترة مبكرة بقدر ماكانت غايتي هي التعبير، تصف سيمون دو بوفوار نفسها بالفتاة الثرثارة حيث الكتابة نتيجة طبيعية لها، بالنسبة لي لم أكن كذلك، إذا جلست بجانبي لمدة ساعتين لن أفكّر بفتح موضوع للحديث، سأستمتع بالصمت، إذا كنتَ مُلفِتا سأنظر إلى وجهك دون أن تشعر وبعدما تشعر كجزء من تأزيم الموقف المربُك، لكنني لن أتحدث معك رغم ذلك. كنت مأزومةً بالتعبير قبل الكتابة، كحاجة شديدة الإلحاح للتعبير عن مساحتي الوجودية، آرائي الساذجة، مواقفي الاعتباطية، والمبالغة في إشهار حدودها أمام العائلة، عندما كان النوم مبكرا مفروضا على الجميع من أجل المدرسة، كنت سرق ساعة إضافية من السهر بعينين ذابلتين من النعاس كنوع من الاحتجاج الأعمى. في الصباح أعِد نفسي في سرّي أنني لن أكرر ذلك لأن النوم على سفرة الفطور فعل فاضح لطفلة تريد أن تقدم نفسها كفتاة خارقة لا يؤذيها السهر، لكنني كررت ذلك حتى تعرّفت على إذاعة (مونت كارلو) ومسرحياتها المتأخرة، مشاهد من الدراما والحبّ والقُبلات الهوائية؟ يا سلام! هذا ماكنت أحتاجه للتعبير أنني – فوق أني خارقة.. من فضلكم!- أستطيع الحصول على حكايات للكبار فقط، في البدء كنت أعيد التردد للإذاعة المحليّة ومسح الآثار اللصوصية، ثم مللت من ذلك واخترت أن أتركها على مونت كارلو، لأوجّه لوالدي رسالة من نوع ” نعم أقصدك” .. كنت أفكّر في ذلك كحدث خطير سيغيّر مجرى الكون، لكن كل الذي حدث هو أن والدي كان يبحث عنها ووجده أمرا مريحا أن يتم ضبط الموجة له، لم يتكلّف حتى بالسؤال عن الذي اكتشفها. وكان هذا محطما للكبرياء، يا سيّد.. كيف لا يمكنك أن تنتبه لهذا الفعل الثوري الخطير؟

.. كنوع من التصعيد انتقلت للخطوة التالية، برنامج إذاعي خاص لشؤون العائلة، وظّفت فيه أخوتي كفواصل إعلانية، وسجّلت حلقات البرنامج على أشرطة والدي (مثلا فوق أغاني أم كلثوم التي كنت أراها مطوّلة بشكل غير مبرر) ثم أخبئها عنه، في البرنامج كنت كثيرا ما أخرج عن النصّ بشكل محرج، أشتم مثلا أو أبصق على أشخاص معيّنين لا أحبهم، أذكرهم بالاسم، ثم أشير لأخي ليتدخل بفاصل ينقذ تدهور الموقف. بعد الفاصل أعود وكأنني شخص آخر تمت تهدئته وصوت فتاة مُنعّم تتحدث عن كونها “واو!.. رائعة!” ثم أقدّم أغنية السهرة بكل النشاز الممكن الذي أخلّله بضحك وتصفيق وتعليقات من نوع “الله عليكِ يا ست”، وفي الختام أسرد أسماء فريق العمل وهي اسمي مكررا، ثم أعد “المستمعين” بحلقات أفضل وأكثر سخونة.
المقصود بالمستمعين طبعا.. أنا.

31

كانت حاجتي للتعبير تفوق قدرتي على الكتابة، حتى أصبحت الكتابة ملاذا لعجزي عن التعبير، العجز الذي شعرت به منذ اللحظة الأولى لشعوري بنفسي..

تقول دو بوفوار:

كان عمري خمس سنوات ونصف.. وكانت تُسكرني فكرة أن أمتلك حياة تخصّني وحدي

… أستطيع أن أنتمي لكل حرف في هذا السطر. سيمون في “مذكرات فتاة رصينة” لا تقدم الصورة التي أنتمي إليها كـ “فتاة في منتهى الشقاوة” لكنها بالضبط المذكرات التي وددت قراءتها، حقيقية وصريحة ومباشرة، ووجدتني أتقاطع مع كثير من ذاتيّتها، تمثّل مرحلة من ثلاثة مراحل من سيرتها، تحديدا مرحلة الطفولة وتكوين الشباب، سأحرص بالتأكيد على إكمال بقيّة الأجزاء، لن تجد تفصيلا لحكايتها مع سارتر إن كنت تبحث عن ذلك، أعتقد أنني سأقيّمه بخمسة من خمسة.

2 thoughts on “عشرون سيرة ذاتية| 5 الذاكرة التعبيرية – سيمون دو بُوفوار

Comments are closed.