إنّ الذي يجعل النايّ يبقى بعدما يفنى الوجود هو قدرة الناي على الظهور كنوتة منفردة مهما تداخلت أصوات الاوركسترا، يعلو ويزهو دون أن يشذّ، بل يضيف بإنفراده على الجموع بريقا فريدا، وعندما أراد الموسيقار العظيم محمد عبدالوهاب أن يهيء العالم لماهية أن تُسقط عمرا على عمرك في رائعته (أنت عمري) اختار أن يبدأ الملحمة بعزف منفرد، ذلك أنك لا يمكن أن ترى في الآخر عمرا ما لم تنفرد أنت بذاتك في عمرك، وإلا فذلك عمر ضائع “يحسبوه إزايّ عليّا”؟ ولطالما غنّت الستّ في وجه الجمهور إلا عندما تجرأ على ساحتها العازف سيّد سالم بصولو ناي وغالبها في عملية فدائية، أصابتها وأصبحت هي الجمهور فتنهدت: “إيه ده؟” وأكملت فـ”جرح الأحبة عندي غيرُ ذي ألمِ”. البريق الفريد، العزف المنفرد المتناغم، الجرأة، الستّ جمهورك، ذلك بالضبط ما يعنيه أن تعيش مستقلا، في موطنك الخاصّ بك، هذه التدوينة للاحتفاء بالطيور الحرّة وبهجة نمط الحياة المستقلة!
غادر العُش، حلّق بعيدا
لا أودّ أن أتجاهل كافة السياقات الاجتماعية التي تخلق ارتباطات وإلتزامات تحاول منع الشخص من أن يعزف منفردا، وفي نفس الوقت لا أريد لهذه التدوينة أن تكون دليلا في تحقيق الاستقلالية، فهي موجهة للاحتفاء بالمستقلّين، الذين صنعوا هذا الخيار من صميم المعمعة الاجتماعية، ثم اختاروه، أما أولئك الذين قدمت الحياة لهم خيارا بالاستقلال بوسع السماء لكنهم اختاروا العشّ … عارٌ عليكم! لقد فاتتكم الحياة.
لا يمكن اعتبار
الغرفة الخاصة أو الملحق الخاص في منزل العائلة سكنٌ مستقل، ذلك لأنه يفتقد إلى
أهم مكوّنات الاستقلال المكاني والنفسي والاجتماعي والمادي، الشباب الذي يعتبرون
سكنهم في ملحق العائلة استقلالا يعيشون مفهوما مخدّرا ومضللا للاستقلال، ربما
يوارون خوفهم وعجزهم في أن يستقلّوا فعلا، حتى أولئك الذين منحتهم العائلة منزلا
كاملا ضمن نطاق ملكية منازلها، حتى هم ليسوا مستقلّين حتى وإن تكلّفوا به ماديا.
هناك فرق شاسع بين المساحة الخاصّة تحت مظلة العائلة، وبين الاستقلال عنها، بين أن
تبني مجموعة أعشاش محاذية، وبين أن تحلّق بعيدا. المساحة الخاصة امتياز بينما
السكن المستقل أسلوب حياة مجرّد. حتى في المعنى القاموسيّ للاستقلال يعني أن يكون
الشخص قائم بنفسه، يحكم نفسه، ولديه السيادة الكاملة!
“بس أنا اجتماعي” …. ماله دخل
هناك تصور خاطئ في وصف الشخص المستقل بالوحيد، أو في ربط المستقل بشخصية الانطوائي، يقول لك أحدهم: أنا اجتماعي لذلك لا أستطيع العيش منفردا. لا.. أنتَ خائفٌ واتكاليّ لا تستطيع أن تعيش مع نفسك. المستقل ليس وحيدا بالضرورة، وبالتأكيد ليس انطوائيا بالشرط، أعجبني مقطعا بينما أقرأ لـ Zora Schärer في فصل يتحدث فيه عن (نموذج العزف المنفرد) ورغم أن الكتاب موسيقيّ بحت، لكن انظروا معي إلى بلاغة هذا الوصف لحالة العازف المنفرد، سأحاول ترجمته بدون أن أفقد السيطرة على شاعرية الموقف:
“إن الفنّان العظيم ليس ذلك الذي يقدّم ذات النسخة من عرضه الموسيقيّ ليلةً بعد ليلة؛ بل هو الذي يكيّف عرضه الموسيقي في كل مرة من خلال التواصل مع الجمهور، ومع أخذ الظروف البيئية بالحسبان. والسبب وراء ذلك أن العرض الفنّي جزء لا يتجزأ من سياق حدوثه. إن الموسيقى المؤدّاة لا يمكن عزلها عن البيئة الناشئة فيها، بل إن البيئة ذاتها لديها احتمالية التأثير التي تجعلها جزء من الحدث الصوتيّ لذلك العرض المنفرد”
بالمثل؛ إن الشخص المستقل جزء لا يتجزأ من سياق حدوثه! متصل بعائلته، دون أن تكون لها سيادة مطلقة عليه، يقوم بالزيارات الاجتماعية بحبّ واختيار ووئام لا إلزام، متواصل مع أصدقائه وزملائه وأحبائه دون أن يكون رهينا لهم. المستقل يكيّف تجربته في الاستقلال من خلال التفاعل مع محيطه بشكل منفرد، ذلك ما لا يجرؤ عليه معظم الناس، الذي يضعون العائلة وسيطا بينهم وبين المحيط، فالعائلة تبرمج لهم أفكارهم، معتقداتهم، قوائم الصواب والخطأ، لائحة الأخلاقيات، وحتى حق اختيار الزوجية. عرضٌ موسيقيّ مستعار وناشز. هنالك سبع سماوات فاصلة بين أن تتواصل مع عائلتك، وبين أن تحدث أنت من خلالها.
رفقة الصديق الذي طالما هربت منه
يوفّر العيش المستقل تجربة إنضاج محترمة للشخص، تبدأ من توريطه بصديقه الحميم، سؤالاته المطروحه في ذهنه، قراراته المؤجلة، الخلوص من القوالب الاجتماعية الافتراضية لحلّ ألعاب الحياة، عندما تواجهك مشكلة حتى لو كانت ببساطة تسريب الماء من المغسلة، سيكون عليك أن تحلّ الأمر بنفسك، وصولا إلى اتخاذ قرارات أكثر مصيرية، مثل: من سيطبخ لي المرقوق اليوم؟
موطني موطني .. هل أراكَ في عُلاك؟
تمثل الشقّة أو الاستديو الذي يسكنه المستقل مركز العمليات الذي يحكم من خلاله العالم، وهذا يبدو مجازا لكنه حقيقة، تبدأ تفاصيل جودة حياة المستقل من أنتكة شقته، باليت الألوان الذي يستخدمه في التأثيث، رصف القطع، أدوات التشغيل اليومية للطبخ والتسخين، الكنبة التي ينام عليها الأصدقاء أو الزائر من العائلة، زاوية العمل والترفيه، قد أبدو “شاطحة” لكنني أؤمن أن رعاية المستقل لموطنه الصغير يشي بكل شيء عن شخصيته، بعبارة أكثر وضوحا: احكم على الشخص من شقته! واحدة من الفلاتر التي تساعدني على إبقاء الأشخاص ذوي جودة الحياة العالية بجواري، هي طريقتهم في إدارة مركز عمليات التحكم في العالم الذي يملكونه، الرائحة الرطبة والملابس المتسخة على الأرض، والصحون غير المجليّة من أسبوع، كلها أمور لا تعني أن هناك شخص مستقل فعلا خلف هذا المركز
على حطّة إيدك : كل شيء سيبقى كما تتركه
… يتبع في تدوينة قادمة
أبدعتي.. يليقُ بِك طيري وغني لحني للدنيا كل ما تتمني
دعينا نرقص طربا ونُغني(موطني موطني هل أراك في عُلاك)
يا هلا يسرى .. جايتك جايتك :)
اخ يامنال
بكل مره تبهريني أكثر! أختيارك للمفردات وبعدها وصفك الدقيق خلاني أستشعر كل شيء خصوصاً أني أسعى له
أنتظر جديدك دائماً❤️
شكرا أشواق :*
رائعة. مستقل من ١١ سنة
كفو!
Pingback: متفرقات 24 - فرزت