كتابة، إرسال، تحرير …ديليت !

ما الذي يحدث كلما (تعشّمت) في شيء وطال زمن حصولك عليه؟ … تزهد فيه أو تعافه في الغالب، مهما كانت شدة رغبتك فيه، ذلك أبسط ما يفعله الفارق الزمني بين الرغبة والحصول، أشغلني لفترة ما يمكن أن يحدثه الزمن فقط بعبوره، خاصة فيما يتعلق بالتواصل بيننا، امتدادا لما ذكرته في التدوينة السابقة، فإنني أؤمن أن (التزامن) هو احتياج لحوح في علاقاتنا وكلما افتقدناه كلما فقدنا من صحة هذه العلاقة.

أقصد بالتزامن هو التواصل مع الشخص في المكان والزمان نفسه، هنا والآن، ، أنا من الأشخاص الذي لا يعرّفون البُعد والمسافة بأنها “فارق التوقيت” وليس الجغرافيا، فارق التوقيت هو الذي يجعل التزامن مختلا بين الطرفين، هو النقطة الحرجة.

كتابة، إرسال، تحرير …ديليت !

ها نحن اليوم لدينا فرصة للتعبير والتحرير وفرصة الحذف، وميزة معرفة كون الرسالة مقروءة والشخص موجود في اللحظة أم لا ( واتساب يعطيك مستويين من مقاربة التزامن : الاستلام ، القراءة ) ، والسؤال: هذا كان ذلك مبالغا فيه؟ هل يجب أن نحصل على كل هذه الفرص في الحذف والتحرير في حالة التواصل الصحي والسليم؟

برأيي؛ نعم كل ذلك مبالغة، أقاوم نفسي في استخدام هذه الخواصّ لأنها تقلل من امتياز التواصل التعبيري، فأنا عوضا عن حذف الرسالة في واتساب مثلا؛ أقول للشخص: أشعر برغبة في حذف ما أرسلته، أود لو أنني لم أقله! أو أقول: عذرا أرسلته بالخطأ. لا أفعل ذلك دائما لكن في معظم الوقت، وهكذا؛ برأيي فإن التواصل مع الأشخاص عن طريق استغلال هذه الأخطاء أو التراجعات هو تواصل أكثر إثمارا من استعمال الخواص التقنية في الحذف. وهذه أبسط فائدة. بالنسبة لي فإن غايتي العليا هي الحفاظ على التزامن، وهو ما سأسرده في أفكار مترامية هنا باختصار:

  • محاكاة التزامنية: خواص الإعلام بالاتصال (online)، بالتفاعل (Typing…) ،بوصول الرسالة، التنبيه عند التغريد، التنبيه المخصص، تحميل برامج لتخترق ما يحجبه الشخص من معلومات، وفي المقابل تحميل برامج لإخفاء الحالة، “خلينا نشغل الفلم مع بعض”، الايموجي ، هذه كلها محاولات تقنية لخلق حالة تزامنية بين الطرفين، ذلك ما يجعلنا مدمنين لها، شعورنا بأنا نحاكي (هنا والآن) رغم بعد المسافة.
  • شخصيا أشترط التزامنية ونقل مستوى التواصل في حالة تطور العلاقة ، إذا كان الطرف المقابل غير مستجيد للتزامنية فإن تلك هي نهاية ما لدي معه، ذلك مفرق الطريق، أنا لا أطيق تواصلا غير متزامن.
  • هناك احتياج للشعور بأن الطرف الآخر يقوم ما يقوم به في اللحظة التي تعرفها أنت، أسمي بذلك باختبار التزامنية معا، حتى لو كنا منفصلين مكانيا فإننا على الأقل نشعر باللذة أننا نشاهد نفس الفلم في نفس اللحظة، ذلك لا يكون إلا من الشعور (هنا والآن)
  • عندما يتصل بك شخص فترسل له: أنا مشغول؛ سأتصل بك لاحقا. هل تسائلت لماذا تضع آبل هذه الرسالة الافتراضية مع خيار رفض الاتصال؟ خيار رفض الاتصال نفسه هو شعور بالتزامنية،فأنت تقول بذلك: لقد سمعت  اتصالك “الآن”، لكنني مشغول وأريد أن تعرف ذلك الآن أيضا

لماذا يهرب الناس من التزامن؟

هل شاهدت ميم (Meme) يتحدث عن المعضلة مع أولئك الذين يتصلون عوضا عن الإرسال؟ لماذا يشعر هؤلاء أن التزامنية معضلة، وعبء نفسي، ونوع من التطلّب؟ برأيي أن الإدمان على الخواص التقنية التي تمنح خيارات التحرير والتخفي هي التي شوهت قدرة هؤلاء على أن يتقبلوا الحضور الآني، الاتصال، وجعلتهم يشعرون بالذعر إذا كان الشخص المقابل متصلا في ذات اللحظة التي يكتبون له فيها، هذا لا يمكن أن يكون تواصلا طبيعيا!

مالذي تخسره بغياب التزامن:

الخسارة هي: الحكاية المشتركة ؛ أعني بذلك أننا متفوقون في صياغة الحكاية المنفردة، التزامن يجعلها حكاية مشتركة مع طرف آخر، لا يمكنك أن تقول (شاهدنا الفلم معا/ سهرنا معا) إذا كان أحد الطرفين غير متصل أو غير موجود! هل تغلب حكاياتك المنفردة حكاياتك المشتركة؟

استخدام التزامن للتلاعب بالآخرين:

أصبحنا نرهب الحضور، تظهر لدينا مشكلة ال” أعرف أنك قرأت رسالتي فلماذا لم ترد؟” حتى أن الناس أصبحوا يستخدمون تلك الميزة التقنية في التلاعب بمشاعر بعضهم البعض، تريد أن تؤذي شخصا وتدفعه للشعور بأنه أقل أهمية، بأنه متروك أو مهمل؟ دعه يعرف بأنك قرأت رسالته، دعه يعرف لأنك لا ترد عمدا؛ دون أن تكتب حرفا واحدا، إن مجرد التلاعب بقوة التزامنية كاف لإيذاء شخص ما، أعتبر هؤلاء الأشخاص يفتقدون للحسّ الإنساني في أدنى مستوياته، مع ذلك أعتقد أنها ميزة الكترونية ، إنني أحترم حقّك في التنازل عن التزامنية، لكنني في نفس الوقت أعتبره تنازل أخلاقي، أنا شخصيا أتنازل عن حق التزامنية، لكنني أضع تنبيها للطرف المقابل من قبيل: “أحتاج وقتا أطول للتفكير”، “مالي نفس أتواصل مع أحد الآن”


يمكننا أن نملك كافة الأدوات التقنية للكتاب، للإرسال والتحرير، للحذف، لكن هل مازلنا نسيطر على مفاهمينا الصحّية في التواصل؟