ثبات اليقينيات.

http://bit.ly/b3valL

إن الحديث عن منطقة “اليقين” في تصديقاتنا أو أحكامنا يكاد يكون منتشراً ومكروراً، خاصة فيما يتعلق باليقينيات الشرعية النابعة عن نصوص الوحي، بيد أنني هنا لا أتحدث عن هذه النقطة، فحسب بل أتناول كل ما يتعلق بمنطقة اليقين من الأفكار، مثلاً: هل أنتَ موقنٌ من أن الأرض تدور حول نفسها؟ حسناً هذا ما قاله المنهج المدرسي، لكننا لو وقفنا في مناظرة علمية فإن نحو 90% من “الموقنين” بهذه الفكرة لن يكونوا قادرين على صياغة برهان كامل واحد لصالح فكرة آمنوا بها طويلاً، وربما رفضوا التفكير خارج إطارها، هذا المثال في هذه الفكرة المتعلقة بطبيعة الكون يمكن سحبه على أفكارنا الأخرى تجاه الأفكار ذاتها والنظريات، والأشخاص، وتفسير الأشياء من حولنا.

مساحة اليقين:

لو تخيلنا مخزن الأفكار كدائرة فإن اليقينيات يجب ألاّ تتجاوز نقطة أو دائرة المنتصف الأضيق، لماذا هذا التحديد الكمّي؟ إن العناية دائماً تتوجّه إلى الكيف لا إلى الكم هذا صحيح، لكن فيما يتعلق بالأفكار فإن الاتساع الكمّي لمنطقة اليقينيات و “المسلّمات” يحيلها إلى منطقة مهزوزة وعبثية؛ فهذا الاتساع يدلّ بشكل أكيد إلى خلل جلل في ترشيح الأفكار أو “فلترتها!”.

إنّ الشخص الذي يتحدث عن أي فكرة هامشية على أنها فكرة “مُسلّمة و يقينية” لا يقبل الجدل حولها هو بالتأكيد يعبث بمعنى اليقين عنده، فأفكاره”اليقينية!” ليست قائمة على أساس راسخ، لذلك فإنها ضعيفة وهشة ومعرضة للتهافت عند أول مقابلة لرأي مخالف عنها.

الأشخاص من هذا النوع تجدهم حماسيّون ومنفعلون تجاه أي محاولة لطرح أسئلة حول يقينياتهم؛ لأنهم ببساطة لا يعرفون لماذا آمنوا بها إلى هذه الدرجة؟! ويخافون أن يصبحوا فجأة بلا يقين ولا أفكار؛ لذلك يحاولون “تهويل” أي جدال علمي حول الأفكار، ويتهمونه بأنه يهدف لهدم ثوابتهم ومسلماتهم، وهم لا يعلمون أن هذا الهدم المزعوم إنما هو بسبب “هشاشة” إيمانهم لا بسبب عتوّ الآخرين وأفكارهم الأقوى!والبقاء دائماً للبرهان. فهؤلاء لا يجنون غير أرباح ذاتية تُسعد أهواءهم المجوّفة وألقاباً حركية مثيرة لا تطابق واقعهم شيئاً، وهم بذلك يظلمون أفكارهم التي ربما كانت صحيحة، لكنها لم تجد من يحترمها بدلاً من أن يطبل لها! فالأفكار تريد أن تبني لا أن ترقص، على العكس فإن الأشخاص الذين يحافظون على مساحة ضيقة من اليقينيات يكونون أكثر مسؤولية تجاه إيمانهم؛ فليس كل فكرة يسمعونها من خطيب أو يقرؤونها في صحيفة يمكن لها أن تعبر بسهولة إلى يقينهم، كما أنهم يملكون شجاعة أدبية لمناقشة الأفكار التي آمنوا بها؛ لأنهم يملكون البراهين الكافية لرسوخها في أنفسهم، بل إن هذه المناقشات العلمية مع المختلفين عنهم تصقل أفكارهم وإيمانياتهم أكثر، وتساعدهم على تمرير رسائلهم الفكرية للآخرين بطريقة علمية محترمة، وأفكارهم في النهاية هي التي ستحرز أتباعاً مؤمنين واعين يعمرون بها الأرض. أما الكارثة الحقيقية فهي أن يتم التعامل مع الحقائق الشرعية وفق الرؤية العبثية لليقينيات.

ألا تسمعون عن شخص استقام أو ما يُسمّى عُرفاً “التزم!” وبنى دينه وتقواه وخوفه ورجاءه من الله على قصة وهمية من أحد الوعاظ المدلّسين، أو على تفسير خاطئ لنصٍ وافق هواه، هذا الشخص نفسه يتمحور يقينه الشرعي “الهشّ” حول تلك القصة التي سمعها في شريط ما –مثلاً-، دون أن يطورّ يقينه بالعلم الشرعي الصحيح، تراه بعد مدة اكتنى بكنية لها وهج ديني، ثم يُقدّم للصلاة فيظن نفسه إمام المؤمنين، ثم بعد مدة تراه يجادل في الشبكات، وينافح في وجه كل من يقف ضد القصة، أو التفسير الخاطئ للنصوص أي: المنهج الوهمي الذي سلكه، ويتهمه بأنه عدو للدين وخائضٌ في “الثوابت الدينية!!”، دون أن يدرك أنها ثوابته هو لا ثوابت الدين، فأين هو عمّن ارتقى بإيمانه عبر تدبر القرآن آناء الليل وأطراف النهار ودراسة أسماء الله وصفاته ونحو ذلك؟!

وهكذا فإن جعل منطقة اليقينيات منطقة متأثرة (لا مؤثرة!) فتتقلّص ببرودة وجمود الفكر، وتتمدّد جداً بحرارة الأفكار الواردة ومدى وهج صيتها لا برهانها وحقيقتها، هذه الممارسة مع اليقينيات كفيلة بإسقاطها عاجلاً أو آجلاً، إسقاطاً غير مثمر، بخلاف الإسقاط المثمر الذي سأتحدث عنه في مقال تالٍ -إن شاء الله-.

ثغرات اليقين:

http://bit.ly/agjzll

ما الذي يجعلنا نتوه عن حقائق الأفكار، ولا نستطيع تصنيفها من حيث كونها فكرة في مرتبة الشك أو الوهم أو الظن، أو حتى اليقين؟ إن كثيراً من الأفكار تتسلل عبر ثغرات خفية إلى منطقة اليقين، فمن هذه الثغرات:

1. الخبرة السابقة: فنحن نحمل استعداداً أكبر للإيمان بالأفكار التي تمثل إكمالاً لأفكار سابقة آمنّا بها أو إعادة لتشكيلها دون الخروج عنها، أكثر من استعدادنا للإيمان بالأفكار الجديدة في ذات سياق أفكارنا السابقة. الخبرة تضرب منطقة الحياد في تفكيرنا فتجعل أحكامنا تميل، فعلينا أن نتعلم كيف “نوظف” الخبرة السابقة في “نقد” الفكرة المكمّلة، وننحي الخبرة السابقة قدر المستطاع في حضور الأفكار الجديدة حتى تستكمل حضورها في تصوّرنا، ثم نلقحها بما سبق لنا معرفته لإنتاج أفكار أرشد وأكثر متانة.

2. القاعدة الأولية: وهي الأفكار التي لا نملك أي فكرة مسبقة عنها ولا في ذات سياقها، البعيدة عن تخصصاتنا العلمية مثلاً أو عن مجال معرفتنا، نجد أنفسنا نؤمن بها لبناء قاعدة معرفية تجاه ما نجهله، فأي معلومة تبدو أفضل من عدم معرفة أي معلومة عن شيء ما! لذلك نرحّل المعلومات الأولية إلى منطقة اليقين دون وعي، هنا علينا أن ننتبه للمصدر الذي نستقي منه خبراتنا ومعلوماتنا الأولية (فاسألوا أهل الذكر). وحتى بعد تحري المصدر فإننا يجب ألاّ نجعلها في منطقة اليقين، إنما تبقى مجرد معلومات جديدة فهمناها، وهي عرضة للنقد والترك في أية لحظة!

3. طول العهد: إن الأفكار والنظريات التي تشكلت بها سلوكياتنا واعتدنا التفكير بها والممارسة على ضوئها لفترة طويلة من حياتنا هي أفكار مؤهلة بلا وعي منا، إلى أن تكون أفكاراً يقينية لا تقبل الجدل، وهنا علينا أن نتميز بالنزاهة والشفافية والقدرة على طرد هذه الأفكار المعتادة من يقيننا ما لم تثبت هي ببراهينها.

4. التقليد: أؤمن أن التقليد هو آفة التفكير التي تهلك وظيفة العقل، وهو أخطر ثغرة تنفذ منها الأفكار إلى منطقة يقينياتنا، فكم من فكرة آمنّا بها فقط لأنها صدرت عمّن نثق به، أو أخبرنا بها من لا نشكّ في صدقه، علينا أن نفرّق بين تقديرنا للآخرين واحترامنا لقدراتهم الفذة، وبين حقنا المكفول في اعتناق ما نراه صواباً وصحيحاً، دون أن نتقازم أمامهم بحجه الجهل أو عدم القدرة على تحصيل ما حصّلوا من علم؛ فالجهل نفسه هو النقطة التي بدؤوا منها، والفرق أنهم انطلقوا منها إلى مزيد من العلم واكتفى غيرهم بالطواف حول هذه النقطة وتقليدهم.

*الإسلام اليوم

4 thoughts on “ثبات اليقينيات.

  1. بالحقيقة تدوينة رائعة جداً .. وطريقة جميلة في عرض الفكرة ..

    هناك الكثير من العبارات التي وقفت عندها كثيراً ، والتي سأستفيد منها مستقبلاً وسأحاول أن أنقلها لتعم الفائدة ..

    شكراً لك منال ..


  2. لن يكون إنساناً !
    سيكون أي مخلوق آخر عدا الإنســان !
    ذلك الذي يجعل من عقله فندقاً للأفكار .. دون غربلة لها وتحميص !

    وبوركتِ عزيزتي منال

  3. جميل أن أعرف طريقة تفكيري صحيح أني أؤمن بالأفكار وأتعصب لها

    لكني أضع بحسباني أنها قابلة للترك و التغيير

    مقالة جميله أستفدت منها

    شكرًا لك

  4. تناقشتُ ذات يوم مع أحد المسيحين ، قال لي عبارة يرن معناها في أذني أن الله أوصاهم بالعلم وأن يعرفوا الحقيقة الحقة حتى اذا ماقابلوا أعداءهم لا تضطرب قُلوبهم .

    هذا هو اليقين الصادر عن العلم والبحث عن الحقيقة ، وليس التلقين المجرد .
    لو أن لابن آدم من اليقين قدر شعيرة لمشى على الماء .

    مقال رائع يامنال ، شوقي و ودّي

Comments are closed.