لم أعد أؤمن 2 (مزلق الأوهام).

كنت قد تحدثت في المقال التقديمي السابق (لم أعد أؤمن) عن خط سيرٍ دائري نقود به أفكارنا بالنسبة لإيماننا بها، وهذا يشمل الأفكار من حيث هي أفكار بغض النظر عن تصنيفاتها، هذه الدائرة (دائرة الإيمان/الجحود) تنطلق بالفكرة من نقطة الشك إلى الوهم إلى الظن إلى اليقين، ثم يعود هذا اليقين متزعزعاً عبر الظن الثاني، فالوهم الثاني، فالشك الثاني، وهذا الشك بحد ذاته إنهيار لليقين، والذي قد ينتقل إلى الجحود وهي نقطة (لم أعد أؤمن)، الفكرة لا تنتقل اعتباطاً عبر هذه المراحل بل عبر منهجية عقلية سواء تعمدها الإنسان أو لا، وهذا هو الفارق الحقيقي بين إنسان مفكّر وآخر، وهو “الوعي” بأفكاره وتطوراتها.

مع الشك:

إذا علمنا أن الشك هو تساوي طرفي الإيجاب والسلب، أو تساوي درجتي الإيمان والكفر، فإن الفكرة تمر بمرحلة الشكّ مرتين (وفق الدائرة السابقة): المرة الأولى هي التي أقصدها هنا، وهي بسبب عدم وجود الفكرة في الذهن، وإن وجدت خارجة عنه، وهو الذي لا يكون معه أي معرفة بدلائل ثبوت الفكرة أو نفيها، ودرجتا الإيمان والكفر فيها هي درجة صفرية، فإن العقل السليم لا يسلّم بفكرة غير موجودة بتمامها في ذهنه ومعروف أن الحكم (الصحيح!) على الشيء فرعٌ عن التصوّر (الصحيح التام!) له، وهنا ترون أنني أساوي تماماً بين عدم وجود الفكرة في الذهن أصلاً وبين عدم تصورها بشكل صحيح وتام؛ فإن الأمر إذا لم يكن موجوداً على حقيقته في أذهاننا فهو غير موجود حكماً؛ فالفكرة إذن عند الشك بها شَكّاً أولياً تُتصوّر في ثلاث صور: عدميتها، تصوّرها بشكل خاطئ، تصوّرها بشكل ناقص. ودعونا نقف بإيجاز مع كل صورة:

http://bit.ly/dnP56x

عدمية الأفكار:

تصوّروا كم يمكن أن نخسر لو توقف عقل الإنسان عن إنتاج المزيد من الأفكار؟ سيتثلج التاريخ! ويجمد كل شيء ولن يتحرك سوى الزمن! غير أن هذه النتيجة تحدث فعلاً عند البعض على الرغم من استمرار الإنسان في إنتاج الأفكار وذلك لأنهم لا يفيدون من إنتاج غيرهم، ولا ينفتحون على عقول الآخرين، والأهم هم لا يهتمون بإنتاج الأفكار لأنفسهم ولغيرهم، هذا جليّ جداً في الأشخاص غير المستقلين والخاملين فكرياً، والأسوأ عندما لا يكتفي الإنسان بعدميّته فكرياً، بل يسلّم عقله لغيره، ويظل يمنح الآخرين تصاريح الانتفاع (الكمّي!) من عقله.

إنّ العقل آلة لا بد من تدريبها على إنتاج الأفكار ببحث المشكلات –مثلاً- وتلمّس حلولها، أو بتطوير حلول سابقة أو تغييرها وتبديلها. إن السؤال (لماذا) وحده – مثلاً- يفتح لنا أفقاً واسعاً من التأمّل، وكما أقول دائماً: لا تسأل عن الأشياء: لماذا هي كذلك فحسب، بل اسأل: ماذا لو لم تكن كذلك؟، إنّ التساؤل الدائم يمرّن العقل على بحث الأفكار وإنتاجها دون أن يكون هذا التساؤل منغلقاً على ذاته؛ فالانفتاح الذهني تجاه الأفكار و “أصحابها!” عامل أهم في تكوين المزيد من الأفكار.

التصور الخاطئ (المعدوم حكماً):

الخطأ العَرضي غير المقصود لذاته أو الأصلي في طبيعة البشر أمر مفروغ منه ومُقدّرٌ التجاوز عنه، والعقل مهما حاز من دُربة وفهم وحكمة يظل غير معصوم، وما أقصده هنا هو التسبب في هذا التصوّر الخاطئ، فمن حقّ الفكرة المعروضة على الذهن – أيّ فكرة – أن تُمنح الفرصة الكاملة في العرض، بالإضافة إلى أهمية الاستعداد العقلي لدينا لاستيعاب الفكرة كما هي، دون أن نحاول تحويرها أو التدخل في تصويرها، هكذا تشهّياً واتباعاً للهوى.

كثيراً ما نرى من يتأهب للردّ على محدِّثه انتصاراً للنفس، فيقوم بتشويه كل فكرة، وإن لم يستطع قام بإلحاق الفكرة بمقاصد سلبية للمتحدث، وكأنما شق عن صدره. إن الهوى لاعب أساسي و(رأس حربة) التصور الخاطئ المقصود، نعم الحياد المطلق تجاه الأفكار ليس مطلوباً لكن العدالة مفروضة! وأيضاً قد ينتج هذا التصور الخاطئ عن التقصير في تقصي حقائق الفكرة، وكل ذلك لا يمكن التجاوز عنه، فلا بد أن نتعامل مع الأفكار (بمسؤولية!).

التصوّر الناقص (المعدوم حكماً):

وأسباب ذلك متضمنة لما ذكرته سابقاً، غير أنني أؤكد على أن العقل البشري يظل قاصراً عن الإحاطة التامة، والتمام المقصود هنا: هو تصوّر تمام الأوصاف المؤثرة في الإيمان بالفكرة، فمن المهم أن يتحلّى عقل كل منا بصفة التجدّد التصوّري. لا بد أن نكون مستعدين (دائماً) لإعادة تشكيل تصوراتنا وفق الحقائق، وأن نملك الشجاعة الكافية للاعتراف بجهلنا بجزئيات الفكرة، ساعين لإتمام تصوّرنا عنها. ومن ثم الانتقال بها من خط الشك الصفري إلى الترجيح السلبي (الوهم)، أو ما يقابله (الظن).

إلى الأوهام:

وهو الميل إلى نفي الفكرة وعدم الإيمان بها، ويقابل كما نعرف “الظن” الذي هو: الميل إلى إثبات الفكرة والإيمان بها، ويكون ذلك بعد تحصيل معرفة غير قطعيّة تجاه الفكرة، وهنا قدّمت الأوهام وعنونت المقال باسمها؛ لأؤكد على أمر أراه هاماً جداً: يجب أن نكون حذرين تجاه تلقّف الأفكار، وأن يكون نفيها أقرب إلينا من إثباتها.. هل يبدو ذلك غريباً؟

إن نفي الفكرة ليس سيّئاً دائماً بل يدفعنا إلى المزيد من التساؤل، ويدفعنا لطلب المزيد من البراهين، تأمّلوا قول الله: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)!! إنهم قطعاً ليسوا صادقين، وطلب برهانهم هنا ليس لزيادة معرفة، بل للمحاججة والإفحام، لكننا في مقامنا كبشر وفي تطبيقات أفكارنا الدنيوية نميل للنفي لزيادة المعرفة، أما الميل للإثبات (الظن) فالنفس بطبيعتها تميل للاستقرار، وهذا ما يوفره الظن لها جزئياً تطئمن لما تعرفه من صحة الفكرة وثبوتها مما يجعلها تكفّ عن طلب المزيد، وبالتالي – لمن تدبّر بعمق- يكون الانتقال بالفكرة من الوهم لليقين انتقالاً أقوى وأشد رسوخاً من الانتقال بها من الظن إلى اليقين! إن لم تنزلق مجدداً إلى الشك.

تهمّني هذه الإشارة التي أكتفي بها عن تحرير المزيد في هذا المقال.

*الإسلام اليوم

2 thoughts on “لم أعد أؤمن 2 (مزلق الأوهام).

Comments are closed.