يخبرك صديقك ضمن مساره الفكري أنه كان متديّنا وخاصة في غمار مراهقته، تندهُش بدوركِ من تقاطعاتكما هذه حتى تكتشف أن دائرة واسعة جدا من المجتمع تشارككما هذه المرحلة!، يأتي آخر يفسّر جُلّ آرائكما المتحوّلة الآن بأنها سطحيّة كردة فعل لكون كل منكما متديّن سابق، أنت نفسك من الوارد أن تُبرّر آراءك الحاليّة على هذا النحو، كما أنه يتم وصف الحالة الجمعية من هذه الحالات الفردية بأنها: مجتمع متديّن، ويتم عبر هذا الوصف تمرير الكثير من الأيدلوجيات التيّاريّة الموجّهة بحجة انسجامها أو تعارضها مع “المجتمع المتديّن”
وهذا المقال جاء ليقول لك: كيف أنّه لم يمكن لأي أحد منكم جميعا أن يكون متديّنا! لا أنتَ ولا صديقكَ ولا مُجادلِكما ولا المجتمع!وكل ما بُني على ذلك من انتماءات كوميديانية مثل الملحد الصوري الذي لا يستطيع أن يفسّر إلحاده أو المؤمن المتشبث الذي لا يستطيع تفسير إيمانه، هو مجرد وجه آخر لذات العُملة.
التديّني والمتديّن:
إن المصدر “تَفَعّل يدل –مما يدل عليه– على المطاوعة والتكلّف، وبحسب ما سيدلّل المقال فإن الحالة الأقرب للميل الشائع للخيارات الدينية هي أفعال مطاوعة وتكلف لها دوافعها، لا تنضبط بأوصاف “الحالة الفكرية الواعية” التي من الممكن نشوء تحوّل حقيقي عنها! فأنت أمام مجتمع تديّني وشخص تديّني وليس متديّنا، المتدين الذي يمتثل بوعيه للخيارات الدينية، وهذا ما يصنع فرقًا هائلا في تفسير التحولات الفكرية وتوجيه الآراء الاجتماعية،هذا هو الحبل الذي يلعب الجميع على طرفيه، كيف؟
التدين كميكانيزم دفاع في مواجهة المجتمع:
في المجتمع التديّني الذي يجد نفسه ملزوما بالخيارات الدينية إما بقوة السّلطة أو بقوة الأيدلوجيا، تنحصر القوالب التي تتلقف الناشئ، فمنذ الطفولة يتم تصوير الإنسان التديّني بأنه هو الفرد المحبوب والمثال والقدوة، في المدرسة يتم التغاضي عن الطلبة المنتمين للأنشطة التديّنية، في البيت تم ربط التربية ومبكرا جدا بالخيارات التدينية (الجنة،النار) ويتم تسويق صورة الابن المفضّل عند الله بأنه ذلك الابن التديّني المُطاوع لوالديه، لمدرسته، للمجتمع، حتى لا يجد الطفل خيارًا أفضل من أن يكون تديّنيا قدر المستطاع سيعبّر لك عن “شطارته” بالسور القرآنية التي يحفظه والصلوات التي صلاها، وبمجرد ما يزحف نحو مراهقته سيجد نفسه في مواجهة حامية مع مجتمعه الذي سيبدأ بالتمييز ضده بصرامة، ستكون نظرته تهمة بالتجسس المحرم، سيكون حضورها تهمة بالفتنة، وماكان يمكن التفاوض حوله في طفولته سيتم حسمه فورا في مراهقته وبدون تدرّج، فالمجتمع يفترض من البالغ التديّن الفوري باعتبار أن ذلك هو سن التكليف الشرعي، وسيجد المجتمع يقدّم له نموذجا متطورا من الابن المفضّل لله، عبر الدعاة في المدرسة وحفلات تكريّم الحُفّاظ مثلا، وسيجد المراهق نفسه مغمورا في حالة “حبّ الصالحين/التديّنيّن هؤلاء” وهي حالة تديّنية بامتياز، وهو بذلك يبرئ ساحته ويصنع لنفسه صورة مقبولة ومحبوبة في المجتمع، إن ذلك يتم بدون التطرّق إلى الدين نفسه، بل إلى استعمال المجتمع التديّني لها.
التدّين… في مواجهة الوالدين:
إن العائلة نفسها تنخرط في العملية التديّنية الاجتماعية لتحافظ على سمعة جيدة تحقق لها منافع اجتماعية عند التزويج مثلا أو عند الحصول على مساعدة وظيفية، وكثير من الآباء وبدون أي قناعة راسخة–بالضرورة– يأمرون أبناءهم بالامتثال للخيارات التدينية لأن ذلك يكسوهم بصورة المُربّين الجيّدين المؤدّين للأمانة، المدرسة تعزّز هذا الهاجس عندما تعبر عن تكريمها لآباء الأبناء المنتمين للأنشطة الدينية مثلا، هذا كلّه بغض النظر عن أيّ معيار آخر، إنّك لا تجد أمرا في المدرسة يتفوّق على تقدير الدرجات التحصيلية سوى دفع الإبن نحو االمشاركة في الأنشطة التدينية، وهكذا يجد الابن نفسه مضطرا للتعايش مع الصورة التي يرغب الوالدان التحصّل عليها أمام المجتمع، فأنت تجد كثيرًا من غير المدركين للتعليمات الدينية نفسها يدعون لأنفسهم ويطلبون الدعاء لهم “بالهداية” رغم أنهم لا يعرفون بالضبط الهداية إلى ماذا؟ لكن مجرد إظهار هذا الشعور يحقق لهم دفاعا جيّدا ويصّفي صورتهم أمام المجتمع.
التديّن… في مواجهة الذات:
أ. الهويّة:
إن الدعاية الوطنيّة والاجتماعية التي يجد فيها الناشئ نفسه تقدّم له بطاقة تديّنية جاهزة، فهو منتم سلفا لهذا الدين وعليه أن يؤآخي المنتمين إليه،ومجددا تلقنه المدرسة المفاهيم الولائية التديّنية ويهرب الوالدان من كثير من الأسئلة الطفولية اللحوحة بإجابات نهائية يتم ربطها بـ “إرادة الله، أو هكذا هو الحال عليه فحسب” وأسئلة الوجود الأساسية من أنا؟ مالعالم؟ كلها يتم تفسيرها من تلك البطاقة، وفي حال اكتسب الناشئ جرأة النقاش سيُصفع بعبارة مفادها” الإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة” خاصة فيما يتعلق بالماهيات الإلهية أو إجابة “ضرورة التسليم” فيما يتعلق بالمفاهيم التعبديّة، هكذا يتم وضع نقطة نهاية ملصوقة بأوّل السّطر دون أن شيء يمكن للناشئ أن يُعمل فيه شعوره أو تساؤلاته، إنه سيبدأ ميكانيزم دفاعيّة ضد نفسه، ضدّ أسئلته التي يحاوله تكميمها خشية الوقوع في العقاب، عندما يتصل بمراهقته سيكون مدفوعا بنماذج الصالحين الأسطورية من التاريخ أو من الواقع غير المشهود بالنسبة له، ليجد نفسه تديّنيا ما أمكن في مواجهة قلقه الذاتي الخاصّ بهويته فهذا أهون من جحيم الشعور بالذنب المستمر، سيقوم أنجب المراهقين بخلق عُزلة تمكنّهم من حفظ تساؤلاتهم أو تعليقها أو البحث فيها بشكل منعزل مع الحفاظ على الصورة التديّنية الظاهرية.
ب. الكمون الجنسي:
إن المجتمعات التديّنية تميل إلى التكتم بشأن الحاجات الجنسية، الطفل بالكاد يمكنه طرح سؤال برئ أمام والديه، لكن – وبدون مقدمات – سيجد رجلا غريبا في المدرسة يعلّمه وبالتفاصيل أحكاما شرعية مختصّة بالجماع والطهارة والبلوغ! هكذا ببساطة تمرُّ كل محرمات الحديث عبر بوابة التديّن، إذن سيمكنك الحديث والسؤال ما شئت ما دمت تفعل ذلك ضمن الإطار التديّني هذه هي الرسالة التي يبتلعها هذا الناشئ، وبمجرد ما يجد نفسه في” الميدان يا حميدان!” فعليا في مراهقته وبعد بلوغه سيجد منفذه الوحيد في طوفان القصص والفتاوى التي تتعلّق بأبسط تعبيراته الذاتية عن حاجاته، كثير من المراهقين يلجأون إلى صبّ خيالاتهم الجنسية على هيئة استفتاء مفتعل يرسلونه إلى شيخ أو موقع ديني، وهم بذلك لا يريدون حكما شرعيا بالضرورة بقدر ما يريدون خوض هذه التجربة الفريدة في الإفصاح الممتع والفاضح عن حاجاتهم الجنسية، يمكنك تصفح أيّ موقع فتاوى وأي موسوعة فقهية لتحصل على روايات جنسية لا تختلف عن تلك التي تمنعها وزارات الإعلام، لكنها – وبكل بساطة مرة أخرى – يتم عرضها بدون تحفظ بحجة التديّن، كثير من المراهقين يجدون في قصص الحور العين مثلا ملعبا لا يُضاهى للحديث عن مُتعهم الجنسية بشكل غير مسؤول، يعزز ذلك السلوك وبشكل استثنائي الوالدان والمدرسة والمجتمع.
كل ذلك يدفع الإنسان إلى اللجوء إلى السلوك التديّني، فهو وإن كان مضطرا إليه في مرحلة طفولته، لكن سيبدأ يختاره باعتباره السبيل الذي يحقق له منافع مشهودة في تمرير ذاته الكامنة عبرها.
وختاما، في المجتمعات التديّنية التي يكون فيها التديّن هو الرأي ، وهو الرأي الآخر! حيث في أفضل الأحوال سيكون لديك طيف من السلوكيات التديّنيّة لتختار من بينها“مرتبتك” التديّنية في المجتمع، سترى أن كل ذلك لا يمكن أن ينطبق على مفهوم “التحوّل الفكري” باعتباره عمليّة تراكميّة واعية من قدرة الفرد على معرفة الأشياء وتحليلها والحكم عليها ومن ثم التحوّل إليها أو عنها، من الخاطئ تماما اعتبار التجربة التديّنيّة الأولى التي يخوضها الإنسان في هذه المجتمعات حجّة له أو عليه، رغم تأثيرها على ما سيلي ذلك من مراحل.