عشرون يوما من التدوين| 07: هايكو Haiku (ترجمات)

كنت أقرأ اليوم في الهايكو، وهو جنس أدبي أبتكره الأدب الياباني وصدّره بشروطه للأدب العالمي، عبارة عن لوحات مصوّرة تنقل مشاهد غالبا ما تكون مجتزأة وتتناول فصلا من الفصول الأربعة، تتكون كل لوحة من ثلاثة أسطر، السطر الأول من خمس مقاطع صوتية، الثاني سبعة مقاطع صوتية، الثالث خمس مقاطع، في النسخة الانجليزية تتحلل بعض هذه الشروط لكن عموما يحافظ على بساطة التركيب … هذه ترجمة لبعض من قطع الهايكو عن الانجليزية، ترجمة أدبيّة، خيانةً للنصّ وغوايةً للمعنى:

  • لـ بَاتْشُو ، مَاتْسُو ( 1644 – 1694 ) المولود لأبٍ من السامورايّ، أحب باتشو الترحال للغاية ونثر قصائده أثناء رحلاته، نسج قطع الهايكو هذه على فراش موته:

1.
طَريحا في آخر الرِّحلة
وفي الأحلامِ، أعدو بوحشيّة
على أرضٍ ذاوية!

Fallen sick on a journey
In dreams I run wildly
Over a withered moor

2.
أوّل ذرة ثلجٍ ناعمة
كافيةٌ لتثني
أوراقَ النِّسرين، أسفلاً!

The first soft snow
Enough to bend the leave
Of the jonquil low

3.
في صَرخةِ سيكادا*
لا علامةَ تُنبئكَ
كم كانَ قريبا موتُه

In the cicada’s cry
No sign can foretell
How soon it must die

 *حشرة مشهورة بصوت طنينها، لذلك لا تفرّق بين طنينها للتألم وطنينها الاعتيادي.

4.
ألنْ تأتيَ لتَرى
هذه الوحِدة؟
إنما هي ورقة واحدة من شجرة كيري* 05-10-princess-tree

Won’t you come and see
loneliness? Just one leaf
from the kiri tree

*شجرة جميلة تُعرف بأنها من أسرع الأشجار نموا

Continue reading

عشرون يوما من التدوين| 06: الجهل الاختياري والمعرفة المنقوصة 1

تسهيل الوصول إلى المعلومة، وإتاحة المعلومات كان – ولا يزال – أمرًا مُستهدفا عند المهتمين بالتعليم ومآلاته، يؤمنون أنه أهم الآليات الاستراتيجيّة التي تساهم في خلق إنسان حُرّ، مؤثر، وصالح! كلّ ذلك دون أن يرتبط بأدوات نوعيّة تفرّق بشكل فعّال ما بين الوصول إلى المعلومة (أيّ معلومة) والوصول إلى معلومة معيّنة ( وصول منظّم ) ، وهذا كله في سياق مفهوم ومشكلاته مُتوقعة، لكن عندما تكون أمام حالة (تدفّق معلوماتي) فمن الخطأ أن تعتبرها حالة تساوي ( تسهيل الوصول إلى المعلومة ) فحالة التدفق المعلوماتي هي مشكلة بذاتها وليست استراتيجية تصحيحة لها مشكلات :

الفرق بينهما:

في التدفّق المعلوماتي، تُفتقد أهم عناصر الحصول على المعلومة، وهي المعلومة نفسها! صدّق أو لا تصدق أنك ستحصل على كمية غير محدودة من العناصر المعلوماتية دون أن تشكل أيّا منها معلومة حقيقية بالنسبة لك، أثناء تصفحك لتويتر مثلا: ستعرف أن طائرا ما لديه منقار برتقالي وهذا أمر غريب، وستعرف أن النمو الاقتصادي الماليزي آخذٌ بالانخفاض، وستعرف أن فتاة مصريّة تم التحرش بها في مول عام، وستعرف أن شيخا سعوديّا سيموت بجرعة زائدة من الغيرة على نساء الأمة بسبب صورة البطاقة الوطنية، ستعرف كل ذلك في ثلاث دقائق دون أن تعرف في الحقيقة معلومة واحدة حتى ولو كانت غير مفيدة، كلعبة الكاميرا القديمة، مع كل ضغطة زر تتحرك أمامك لوحة للكعبة ثم لوحة للحرم النبوي ولوحة للقدس دون أن تعرف عن هذه الأماكن الثلاث أكثر من ذلك في ذلك الوقت، فالممتع في الأمر هو التقليب والتنقّل لا اكتساب المعلومة، في هذه الفترة التي نعتبر فيها أنفسنا في عزّ التقدم البحثي كأدوات معرفية، نكتشف أننا نستمتع بعملية التدفق المعلوماتي، بتقليب لوحات معلوماتية لا باكتساب معرفة رصينة، نحن نحمل كاميرا بلاستيكية حرفيا.

بينما تسهيل الوصول إلى المعلومة، هي عملية قائمة على المعلومة نفسها، تسأل سؤالا، تضع افتراضات، فنظريات فتجارب، تسأل وتناقش وتختبر، فتحصل على معرفة، قوانين النشر، قوانين التصفّح الالكتروني، اللقاءات المباشرة مع من يشاركونك الأسئلة ، الشبكات الاجتماعية، كل ذلك مجرد وسائل تقودك إلى المعلومة، إنها لا تقذف لوحات معلوماتية في وجهك بل تشرع لك بابا لتتعلم بنفسك، لذلك لا أعتقد أنه من الصائب الحديث عن حالة التدفق المعلوماتي كحالة علمية ينبغي الاستفادة منها، بل كمشكلة ينبغي معالجتها، وهذا يقودني إلى الأداة التالية، لكن قبل ذلك من المهم أن أشير أن كونها مشكلة لا يعني أنها مرفوضة جملة وتفصيلا، هي مشكلة فقط في سياق تعليمي، أما في السياق الترفيهي فكلٌّ وما يناسبه ..

الجهل الاختياري Chosen Ignorance :
يُنظر عادة إلى الجهل أو التجاهل الاختياري كأحد الأساليب المانعة للتعلم، بحيث يمكن للشخص أن يحصل على المعلومة لكن ولاعتبارات متعلقة بطرقه في التفكير يمنع نفسه من التحصيل المعرفي وليس هذا هو المقصود هنا، إذا ما وضعت التجاهل الاختياري كأداة تنظيمية في وجه التدفق المعلوماتي، فسترى أنه أداة معرفية هامة، بمعنى إذا كانت وظيفتك هي الحصول على المعلومة ، ففي حالة التدفق المعلوماتي فوظيفتك هي أن تجهل! غريب؟
إذا نظرت إلى عقلك كوعاء استيعابي، فعقلك من حيث المبدأ لا مشكلة لديه في أن يعرف أن هناك طائر له منقار برتقالي من حساب المعلومات الغريبة، وقد يرحب فضوله بتصفح هاشتاق عن قضية اجتماعية مستهلكة، وعندما تعطيه وظيفة المُستهلك غير الفاعل في هذا التدفق العشوائي أغلب اليوم فليس عليك أن تستغرب لماذا آخر اليوم لا يمكنك استيعاب صفحة من رواية فلسفية أو تضجر من فيلم طويل أو لا تجد لديك الطاقة الكافية لإكمال مهام عملك، لماذا؟ لأنك ببساطة لم تتجاهل التدفق المعلوماتي، تقرأ كل هاشتاق، تشارك، تناقش، تغضب، تسخر، تتخرط في التدفق كذرّة نشطة، تصرف كل طاقتك بمتعة، حتى يقرر عقلك أن حصّته اليوميّة قد انتهت!

سأكمل لاحقا، كيف سيساهم الجهل الاختياري من زيادة المعرفة الاختيارية، وعلاقتهما بالمعرفة المنقوصة، إذا كنتَ مهتما وتحب الأرقام.. سيمكنك الرجوع إلى عدد من المقالات العلمية والدراسات بقوقلة الموضوع.

عشرون يوما من التدوين| 03: ساق البامبو

لماذا كان جلوسي تحت الشجرة يزعج أمي؟ أتراها كانت تخشى أن تنبت لي جذور تضرب في عمق الأرض…” * ساق البامبو

هذه التدوينة ليست مراجعة بالمفهوم المتعارف عليه، رواية ساق البامبو لسعود السنعوسي الأديب الذكيّ – وهو ذكي أظهر من كونه أديب- لا أعتقد أنها تحتاج إلى تعريف عند أغلبكم، الحائزة على الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) لعام ٢٠١٣، ولأنني تأخّرت كثيرا في التعرّف على الأدب الروائي العربي فقد حدث خطأ غير مقصود عندما بدأت مبكرا بقراءة الأدب المترجم العالمي، الذين وقعوا في مثل هذا الأمر يعرفون أن الذّوق الروائي يتطبّع بتجربته الأولى وسيصعب أن تقرأ رواية من حقل لغوي مختلف وإن كان عظيما، وأسمّيه خطأ .. لأنه كذلك فعلا، الوقوع في فخّ المقارنة بين أدب مترجم وأدب أصيل أيّا كانت انحيازات هذه المقارنة. لذلك كنت محظوظة عندما دخلت المكتبة ولم أجد الكتاب الذي أريد فقررت أن أشتري بالمبلغ أيّ كتاب لم أكن لأختره عادة (وهذه تجربة أقوم بها سأكتب عنها في الأيام القادمة) وكانت رواية ساق البامبو هي الموجودة على الرفّ.

سعود السنعوسي، أديب كويتي، والمجتمع الخليجي عموما نسيج متقاطع، ستجد الكثير من الصفحات كما لو أنها تتحدث عن أصدقائك وجيرانك وبالتأكيد عنكَ وعن عائلتك، ( نعم هذا سيشعرك بالخجل والتعرّي)  ينتقل ببطل الرواية هوزيه/خوسيه/جوسيه/ عيسى ( ونعم كل هذه الأسماء لشخص واحد!) ينتقل عيسى في أحداث حياته من خلال السّمة الأميز لمجتمعاتنا الخليجية وهي: القدرة الهائلة على المراوغة. يعبّر كثيرون عن هذه السمة بألفاظ مثل: ” النفاق الاجتماعي، لعنة النفط، التناقضات الفاخرة ” لكنني وبدقّة أختار لها سمة: المراوغة.
لا، ليست كما تتوقع، الرواية ليست عدائية بشكل مزعج، عيسى المولود لأم فلبينية وأب كويتي لن يشتمك ( على الأقل سيحاول ألا يفعل ) كما لن تجد نقدا مجتمعيا كالذي يكتبه كاتب مقال صحفي، سعود السنعوسي كتب الرواية كما لو أنّها مترجمة، وهذا فخّ وقعتُ فيه في أول الفصول، فالبطل لا يتحدث العربيّة وبالتأكيد لن يكتب لك رأيه في مجتمعك كما تفعل الصحف المحليّة، إنه فقط سيتحدث إليك من زاويته.

لكل منّا دينه الخاصّ، نأخذ من الأديان ما نؤمن به، ونتجاهل ما لا تدركه عقولنا، أو نتظاهر بالإيمان، ونمارسُ طقوسا لا نفهمها خوفا من خسارة شيء نحاول أن نؤمن به” * ساق البامبو

هذا اقتباسي المفضّل من الرواية، التي لو قُلت إنها مجرد رواية اجتماعية لبخست تجربتي معها حقها، بالنسبة لي لا تعنيني مراوغة المجتمع بشيء، الفكرة التي تقاطعت معها بها وأثّرت بي هي فلسفة الهويّة، بشكلها الجغرافي، الوطني، الديني، الذاتّي، أن تعيش بهويّةٍ على الحافّة لا يعني أنك بالضرورة مولود من أم أجنبية، أبدا! فأنت بين أهلك، وأهل أهلك ، وجلدك يشبّه تراب وطنك، لكنك ببساطة قد تنزوي في زاوية وروحك مغمورة بسؤال استنكاري لا يمكنك تجاهله: مَن هؤلاء؟ لماذا يتصرّفون على هذا النحو؟ سأفعل مابوسعي لئلا أتحوّل إلى واحد منهم! ففوق عدم الانتماء، أنت ترفض حقيقة أن تنتمي. ها أنت هوزيه/خوسيه/جوسيه/ وعيسى في نفس الوقت!

إذا استطعت أن تصل إلى هذا المعنى، فسأعرّفك على البامبو، صديقتنا الجديدة، هي شجرة غير منتميّة، “نقطع جزءً من ساقها نغرسه بلا جذور في أي أرض، لا يلبث الساق طويلا حتى تنبت له جذور جديدة، تنمو من جديد، في أرضٍ جديدة، بلا ماضٍ بلا ذاكرة …” هل أعجبتك؟ اطلبها أن ترسل صورة ستعجبك أكثر: )

شخصيا ليس لديّ موقف صارم من الجغرافيا، قلت هذا لأصدقائي، كنت أظن أنني سريعة التكيّف في أي مكان جديد، لكنني فهمت لاحقا أنني لا أنتمي إلى المكان إجمالا، فعندما أكون في مكان جديد لا أمرّ بمرحلة التخلّص من ذاكرة المكان السابق، لأنني لا أغرس جذوري، إنّني متأهبة على الدوام، ولا أعرف لماذا. لكنني أعرف أنني منغمسة في الانتماء للأفكار، إن كلّ مكان يعجبني، وكل شخص يعجبني، يتحوّل في ذاكرتي إلى فكرة، ولأنها فكرة فإنها مُعالَجة بالفَهم، فَهمي، وإذا عالجتها -فاسمح لي- ستصبحُ فكرتي! وبذلك أنقل اللعبة إلى أرضي وجمهوري، هذه حيلة أمارسها لسلب الأشياء الخارجة عني قدرة السيطرة عليّ، سواء كانت متمثلة في أشخاص أو أماكن ، وقبل أن تعتقد أنني ألعب بذكاء فالحقيقة أنني أفعل ذلك تلقائيا، دون وعي. وعلى عكس هوزيه الذي كان الانتماء لعائلته وأرضه ولغته ملاذه، فإنني أقرب إلى موقف إيريك هوفر عندما قال: ” الرغبة في الانتماء تُعتبر في جانب من جوانبها رغبة في فقدان المرء لجزء من ذاته” ، هذا ليس سيئا ولا جيّدا، بالنسبة لي أرى الحالتين محاولة للاتصال بذواتنا، إما بالدخول في عملية مقايضة لما هو خارجها كما يفعل هوزيه، أو بإدخال ما يهمّك من الخارج إلى ذاتك كأفكار حُرّة، كما أفعل أنا.

تدوينة طويلة؟ لحظة بقي اقتباس أخير:

اللجوء إلى الإيمان بحدّ ذاته يحتاج إلى إيمان” * ساق البامبو

عشرون يوما من التدوين | 02: أيّها الطارئ

لم أنسَ،

هذه آخر ساعة في يوم مضطرب، كان لا ينبغي أن يُختم بأخبار إعصار جبّار، لكنه ذلك قد حدث بالفعل واعترض طريقي. نحن نتعاطى مع جبروت الكون وجماله بصيغٍ مختلفة، هذا يراها دلائل لعظمة ربّه أو غضبه، آخر يراها انغماس في الجزئية المحدود لبشريتنا العاجزة، انكسار لطفوليّة حضورنا البشري في وجودٌ بالغ وناضج من قبل أن نكون، يحدث ذلك في نفس كل هذه الأطياف، على أنها في مجملها تتحصّل عندي إلى شعور واحد تُنبئ به سطوة الطبيعة، وعبثيتها، فهي في جزء تمنحنا كبشر قوّة العلم وفهم قانون محدود وفي الجزء الذي يليه تضرب بنا وبعلومنا وقوانينا عرض الحائط مجازا، عرض المحيط حقيقة، فتصبح ظانا أنك محور الخلق وتُمسي رقما ضمن آلاف الأرقام من الضحايا العشوائيين لكوارثها، ذلك الشعور الذي تنبئني إياه هذه السطوة: أنني كائن طارئ!

كأنّك في عزّ اختيالك الوجودي الواعي، تصطدم بحقيقة مُحرجة تخبرك:

” أيّها الطارئ، الموجودُ بعد تشكيل النصّ، الأقل أهميّة من نقطة، الأهمّ قليلا من فاصلة، المغلوب على قوانينه كالهمزة، السّلس كالألف الموصولة ، المعقّد كالمقصورة، هالو يا صديق! أنت ذرّة في الكون، أصغر من جزُيء في الزمن، أنتَ رمزيّ وضئيل وغاية في العبط!،

أيّها الطاريء، وأنتَ مكترثٌ للغاية لكيس النايلون من أجل حماية بيئتك، تذكّر أن تلك البيئة ستكون عقودا من بعدك، وأنه من المستحسن أن تبحث عن هواية أكثر تواضعا من حماية الكون، ما رأيك في الرّسم مثلا؟ “

بالنسبة لمن يؤمن بأن الإنسان مركزيّ، وأن الكون إنما كان ليُسخّر له، فأنا آسفة لجرح مشاعرك، بالنسبة للذين يؤمنون أن تلك الحالة الطارئة هي مركزيّة الإنسان نفسه، فأعتقد أننا نفهم أن هذه ليس فكرة حزينة ولا جارحة، وليست فكرة عاجزة بالتأكيد، كونك تتمركز حولة حالة طارئة ذلك وعلى نحو غريب يشعرني بلا محدودية القوّة والغاية والطريق.

عشرون يوما من التدوين| 01 : أهلا نوفمبر

أهلا نوفمبر، شهر الكتابة

كثيرا ما شكونا كمدونّين من تمزيق الأفكار تحت عجلة ١٤٠ حرف أو عشر ثوانٍ مسجّلة أو صلبها في مقال في جريدة، أو ورقة مؤتمر فيها من الارتجال الكثير، كلّ ذلك رائع، لكن تظل نكهة التدوين معتّقة ، وددت أكثر من مرّة ممارسة التدوين اليومي لفترة محددة، شهر نوفمبر ليس هو أفضل خيار من ناحية الوقت، لديّ في الأسبوع الأوّل منه على الأقل ١٢ موعدًا، وقائمة معتبرة من المهام، ديسمبر مفرّغ تقريبا، لكنّ هذا الشهر هو شهر الكتابة كما هو معروف على أيّة حال، كما أن الضغط سيرفع من مستوى التحدي الشخصيّ ” كما أتوقّع! “

لا يوجد إلتزام موضوعيّ ، كالعادة أدبيات وهرطقات وتأملات وبعض المواد التخصصيّة، ربما يوميّات؟ ليس لدي تصوّر مسبق عمّا سأكتب، لكنّني أتصوّر حاجتي للكتابة، كما أنني على الأغلب سأنشر المسوّدة الأولى كما كنتُ أفعل، المهم لديّ هو فعل الكتابة ذاته.

بسّطت شكل المدونة أكثر، ألغيت خيار البحث في قوقل، مزيد من التركيز والهدوء …

أحبّني في المساءات المكررة في تِرس الرتابة، في نهاية الأسبوع عندما يتأخر طلب العشاء، في يوم الدايت المفتوح، في العشر دقائق قبل يوم عملٍ مرهق وعندما يتعرّج خط الآيلاينر بفعل رمش مفاجئ، أحبّني عندما أرغب في التضجر من حرارة الشمس “الحارّة ككل يوم، أعرف!” ، وسأحبك بين شوطي مباراة ناديك الصعب، بعد انتهاء التحليل؟ طيّب، أو عندما لا تجد موقفا لسيّارتك وترغب في شتم الرصيف والزحمة وجارك ورجل المرور، سأحبك بقدر المسافة بين مكتبك ومكتب مديرك عندما يريدك على عجل ويمدّها قلقك، أو عندما لا تصوّت أغلبية رفاقِك على المطعم الذي ترتاح فيه، عندما ترغب في الشكوى من أمّك، أو عندما ترغب في خوض مشكلة اعتباطية…

الحب هو لهزائمنا اليومية الصغيرة، لوقت المنافسة على طاولة بلياردو، لممارسة شغف المناورة..
أما هزائمنا الكبرى – تعرف- أننا نستطيع مواجهتها كأبطال عُزّل لديهم من الجنون ما يكفي لحرق بابل، ومن الشجاعة ما يكفي لتمضية الموقف بكرامة،

هزائمنا الكبرى هي تجربتنا المباشرة مع وجودنا، هي أمر أشد خصوصية من أسرارنا المهموسة منذ الصفّ الرابع، هي حُبنا “الفرداني” الأعظم.

رسائل قصيرة جدا… إلى أصدقاء المكان ( 2 )

إلى:


الكتاب الذي لم أعرفه بعد: دبّر لنا صدفة.
الكتاب الذي اشتريته ولم أقرأه: ماكان العشم!
الكتاب الذي أحرجني بفكرة: عقلي مليئ بالوشوم.
إلى الكتاب الذي رميته: لا يصلح العنوان ما أفسده الفهرس.
إلى رفّ مجموعة الكتب التي تحوي تواقيع الرّفاق:
قناني عطور، لا يمكن أن تختلط روائحها، اللافندر لافندر، والعود..عود.

إلى:

لوحة “الحضن المجّاني” : حضنوا الشخص الخطأ، لم يحضنك أحد.

إلى:

لوحةِ المفاتيح الجديدة: ستفهمين مع الوقت الفرق بين رعشة إصبعي وبين رغبتي في الضغط على الزر المجاور.
رزمة الخطوط الجديدة: أين خطّي؟

إلى:

الوييتر الذي حفظ معايير قهوتي ومقاس الكرواسون: تفوّقتَ على صديقي.

إلى كيس السكّر الصغير الزائد دائما: قدّم استقالتك واحصل على وظيفةٍ أخرى.

إلى غُرّة الحُلوة التي تجلس أمامي كلّما رفعتها عادت ورفضت أن تغادر جبينها: أدعمُ قضيّتكِ بالكامل.

إلى السيجارة المركونة للسيّد الأنيق المشغول بآيفونه: احترقي صبرًا، وَجدًا، وحنينًا . الله بعونك يا ستّ!

إلى الكرسي المجاور الفارغ: ماذا لو؟

رسائل قصيرة جدا… إلى أصدقاء المكان ( ١ )

رسائل قصيرة جدا… إلى أصدقاء المكان:

صديقي خطّ الضوء النافد من حافّة الباب كطلقة قنّاص محترف: لم تقتِل الظلام.
صديقي الظلام: ندبةُ الضوء … شرفُ محُاولة.

صديقي المقبض البارد في قلب الباب: شكرًا! القشعريرة التي تمررها برودتك إليّ، تذكرني بشعور الدهشةِ القديمة لمصافحةٍ في وقت ضائع.
صديقي الباب: المواربة ليست خيارًا.
صديقي المفتاح: هل مازلتَ هنا؟!

صديقتي سمّاعة الأذن الصامدة رغم تلف الأخرى: أمتنُّ لتفهّمك كأخت كُبرى يفترض منها الجميع أن تكون بقدر الموقف!
صديقتي السّماعة الأخرى: أتفهم انسحابك، أنا لو كنتُ مكانك… لفعلتُ نفس الشيء.

صديقتي النظارة: أنتِ تتذمرين من غبش الرؤية من أثر البصمات أكثر مما تفعل عيني نفسها، مجنونة؟
صديقتي بصمة اصبعي الأوسط: تظنين أني سأخطئك؟

صديقتي القطّة التي تجلس على السّور كل يوم، كما لو أن السور عرشها الخالد: تجعلينني أفكر في جعل أسواري عروش.
صديقي السّور: هل تظنها فكرة جيّدة؟

صديقي باب السيّارة الذي لا أعرف حتى الآن قوة الدفع اللازمة لإغلاقه بدون أضطر للتأكد مرة أخرى: أنت التائه أم أنا أبالغ في الشك؟
صديقي الشّارع الذي يعرف من وقع الأقدام مآرب العابرين: كم تحمّلتَ من عبء الشتائم!

التديّن كميكانيزم دفاع في المجتمعات التديّنيّة

يخبرك صديقك ضمن مساره الفكري أنه كان متديّنا وخاصة في غمار مراهقته، تندهُش بدوركِ من تقاطعاتكما هذه حتى تكتشف أن دائرة واسعة جدا من المجتمع تشارككما هذه المرحلة!، يأتي آخر يفسّر جُلّ آرائكما المتحوّلة الآن بأنها سطحيّة كردة فعل لكون كل منكما متديّن سابق، أنت نفسك من الوارد أن تُبرّر آراءك الحاليّة على هذا النحو، كما أنه يتم وصف الحالة الجمعية من هذه الحالات الفردية بأنها: مجتمع متديّن، ويتم عبر هذا الوصف تمرير الكثير من الأيدلوجيات التيّاريّة الموجّهة بحجة انسجامها أو تعارضها مع المجتمع المتديّن

وهذا المقال جاء ليقول لك: كيف أنّه لم يمكن لأي أحد منكم جميعا أن يكون متديّنا! لا أنتَ ولا صديقكَ ولا مُجادلِكما ولا المجتمع!وكل ما بُني على ذلك من انتماءات كوميديانية مثل الملحد الصوري الذي لا يستطيع أن يفسّر إلحاده أو المؤمن المتشبث الذي لا يستطيع تفسير إيمانه، هو مجرد وجه آخر لذات العُملة.

التديّني والمتديّن:

إن المصدر تَفَعّل يدل مما يدل عليهعلى المطاوعة والتكلّف، وبحسب ما سيدلّل المقال فإن الحالة الأقرب للميل الشائع للخيارات الدينية هي أفعال مطاوعة وتكلف لها دوافعها، لا تنضبط بأوصاف الحالة الفكرية الواعيةالتي من الممكن نشوء تحوّل حقيقي عنها! فأنت أمام مجتمع تديّني وشخص تديّني وليس متديّنا، المتدين الذي يمتثل بوعيه للخيارات الدينية، وهذا ما يصنع فرقًا هائلا في تفسير التحولات الفكرية وتوجيه الآراء الاجتماعية،هذا هو الحبل الذي يلعب الجميع على طرفيه، كيف؟

التدين كميكانيزم دفاع في مواجهة المجتمع:

في المجتمع التديّني الذي يجد نفسه ملزوما بالخيارات الدينية إما بقوة السّلطة أو بقوة الأيدلوجيا، تنحصر القوالب التي تتلقف الناشئ، فمنذ الطفولة يتم تصوير الإنسان التديّني بأنه هو الفرد المحبوب والمثال والقدوة، في المدرسة يتم التغاضي عن الطلبة المنتمين للأنشطة التديّنية، في البيت تم ربط التربية ومبكرا جدا بالخيارات التدينية (الجنة،النار) ويتم تسويق صورة الابن المفضّل عند الله بأنه ذلك الابن التديّني المُطاوع لوالديه، لمدرسته، للمجتمع، حتى لا يجد الطفل خيارًا أفضل من أن يكون تديّنيا قدر المستطاع سيعبّر لك عن شطارتهبالسور القرآنية التي يحفظه والصلوات التي صلاها، وبمجرد ما يزحف نحو مراهقته سيجد نفسه في مواجهة حامية مع مجتمعه الذي سيبدأ بالتمييز ضده بصرامة، ستكون نظرته تهمة بالتجسس المحرم، سيكون حضورها تهمة بالفتنة، وماكان يمكن التفاوض حوله في طفولته سيتم حسمه فورا في مراهقته وبدون تدرّج، فالمجتمع يفترض من البالغ التديّن الفوري باعتبار أن ذلك هو سن التكليف الشرعي، وسيجد المجتمع يقدّم له نموذجا متطورا من الابن المفضّل لله، عبر الدعاة في المدرسة وحفلات تكريّم الحُفّاظ مثلا، وسيجد المراهق نفسه مغمورا في حالة حبّ الصالحين/التديّنيّن هؤلاءوهي حالة تديّنية بامتياز، وهو بذلك يبرئ ساحته ويصنع لنفسه صورة مقبولة ومحبوبة في المجتمع، إن ذلك يتم بدون التطرّق إلى الدين نفسه، بل إلى استعمال المجتمع التديّني لها.

التدّينفي مواجهة الوالدين:

إن العائلة نفسها تنخرط في العملية التديّنية الاجتماعية لتحافظ على سمعة جيدة تحقق لها منافع اجتماعية عند التزويج مثلا أو عند الحصول على مساعدة وظيفية، وكثير من الآباء وبدون أي قناعة راسخةبالضرورةيأمرون أبناءهم بالامتثال للخيارات التدينية لأن ذلك يكسوهم بصورة المُربّين الجيّدين المؤدّين للأمانة، المدرسة تعزّز هذا الهاجس عندما تعبر عن تكريمها لآباء الأبناء المنتمين للأنشطة الدينية مثلا، هذا كلّه بغض النظر عن أيّ معيار آخر، إنّك لا تجد أمرا في المدرسة يتفوّق على تقدير الدرجات التحصيلية سوى دفع الإبن نحو االمشاركة في الأنشطة التدينية، وهكذا يجد الابن نفسه مضطرا للتعايش مع الصورة التي يرغب الوالدان التحصّل عليها أمام المجتمع، فأنت تجد كثيرًا من غير المدركين للتعليمات الدينية نفسها يدعون لأنفسهم ويطلبون الدعاء لهم بالهدايةرغم أنهم لا يعرفون بالضبط الهداية إلى ماذا؟ لكن مجرد إظهار هذا الشعور يحقق لهم دفاعا جيّدا ويصّفي صورتهم أمام المجتمع.

التديّن… في مواجهة الذات:
أ. الهويّة:
إن الدعاية الوطنيّة والاجتماعية التي يجد فيها الناشئ نفسه تقدّم له بطاقة تديّنية جاهزة، فهو منتم سلفا لهذا الدين وعليه أن يؤآخي المنتمين إليه،ومجددا تلقنه المدرسة المفاهيم الولائية التديّنية ويهرب الوالدان من كثير من الأسئلة الطفولية اللحوحة بإجابات نهائية يتم ربطها بـ إرادة الله، أو هكذا هو الحال عليه فحسبوأسئلة الوجود الأساسية من أنا؟ مالعالم؟ كلها يتم تفسيرها من تلك البطاقة، وفي حال اكتسب الناشئ جرأة النقاش سيُصفع بعبارة مفادها” الإيمان به واجب والسؤال عنه بدعةخاصة فيما يتعلق بالماهيات الإلهية أو إجابة ضرورة التسليمفيما يتعلق بالمفاهيم التعبديّة، هكذا يتم وضع نقطة نهاية ملصوقة بأوّل السّطر دون أن شيء يمكن للناشئ أن يُعمل فيه شعوره أو تساؤلاته، إنه سيبدأ ميكانيزم دفاعيّة ضد نفسه، ضدّ أسئلته التي يحاوله تكميمها خشية الوقوع في العقاب، عندما يتصل بمراهقته سيكون مدفوعا بنماذج الصالحين الأسطورية من التاريخ أو من الواقع غير المشهود بالنسبة له، ليجد نفسه تديّنيا ما أمكن في مواجهة قلقه الذاتي الخاصّ بهويته فهذا أهون من جحيم الشعور بالذنب المستمر، سيقوم أنجب المراهقين بخلق عُزلة تمكنّهم من حفظ تساؤلاتهم أو تعليقها أو البحث فيها بشكل منعزل مع الحفاظ على الصورة التديّنية الظاهرية.

ب. الكمون الجنسي:
إن المجتمعات التديّنية تميل إلى التكتم بشأن الحاجات الجنسية، الطفل بالكاد يمكنه طرح سؤال برئ أمام والديه، لكن – وبدون مقدمات – سيجد رجلا غريبا في المدرسة يعلّمه وبالتفاصيل أحكاما شرعية مختصّة بالجماع والطهارة والبلوغ! هكذا ببساطة تمرُّ كل محرمات الحديث عبر بوابة التديّن، إذن سيمكنك الحديث والسؤال ما شئت ما دمت تفعل ذلك ضمن الإطار التديّني هذه هي الرسالة التي يبتلعها هذا الناشئ، وبمجرد ما يجد نفسه فيالميدان يا حميدان!” فعليا في مراهقته وبعد بلوغه سيجد منفذه الوحيد في طوفان القصص والفتاوى التي تتعلّق بأبسط تعبيراته الذاتية عن حاجاته، كثير من المراهقين يلجأون إلى صبّ خيالاتهم الجنسية على هيئة استفتاء مفتعل يرسلونه إلى شيخ أو موقع ديني، وهم بذلك لا يريدون حكما شرعيا بالضرورة بقدر ما يريدون خوض هذه التجربة الفريدة في الإفصاح الممتع والفاضح عن حاجاتهم الجنسية، يمكنك تصفح أيّ موقع فتاوى وأي موسوعة فقهية لتحصل على روايات جنسية لا تختلف عن تلك التي تمنعها وزارات الإعلام، لكنها – وبكل بساطة مرة أخرى – يتم عرضها بدون تحفظ بحجة التديّن، كثير من المراهقين يجدون في قصص الحور العين مثلا ملعبا لا يُضاهى للحديث عن مُتعهم الجنسية بشكل غير مسؤول، يعزز ذلك السلوك وبشكل استثنائي الوالدان والمدرسة والمجتمع.
كل ذلك يدفع الإنسان إلى اللجوء إلى السلوك التديّني، فهو وإن كان مضطرا إليه في مرحلة طفولته، لكن سيبدأ يختاره باعتباره السبيل الذي يحقق له منافع مشهودة في تمرير ذاته الكامنة عبرها.

وختاما، في المجتمعات التديّنية التي يكون فيها التديّن هو الرأي ، وهو الرأي الآخر! حيث في أفضل الأحوال سيكون لديك طيف من السلوكيات التديّنيّة لتختار من بينهامرتبتكالتديّنية في المجتمع، سترى أن كل ذلك لا يمكن أن ينطبق على مفهوم التحوّل الفكريباعتباره عمليّة تراكميّة واعية من قدرة الفرد على معرفة الأشياء وتحليلها والحكم عليها ومن ثم التحوّل إليها أو عنها، من الخاطئ تماما اعتبار التجربة التديّنيّة الأولى التي يخوضها الإنسان في هذه المجتمعات حجّة له أو عليه، رغم تأثيرها على ما سيلي ذلك من مراحل.

مرحبا

مرحبا أيّها المتوقَّع الاعتيادي
الذي يعرف الجميع موعد استيقاظه ولا يجدون حاجة لمعرفة ما الذي يعمله بالضبط كل صباح، لأنهم متأكدون أنه سيعود بعد ثمان ساعات، ويبقى متاحًا حتى المساء…الذي تصنع أكبر مفاجآته اليوميّة حفرة جديدة مكان ركون سيارته فيضطر بسببها -وبسببها فقط- إلى اكتشاف مساحة الموقف المجاور،

مرحبا أيّها المتوقَّع الذي لا يكون أبدا هامش خطأ في أي إحصائية، ولا يضطر أصحابه إلى ملاحقة أرقامه الجديدة، الذي يُفتقد عندما يصبح المشهد الإجمالي ناقصا بشكل غير يقيني..من أين وكيف نقص؟

مرحبًا… للذي لا يملك عطرا مفضلا ولا أغنية مفضلة لأكثر من عشر دقائق، صاحب بطاقة التصويت “بكيفكم” عند اختيار مطعم العشاء .. الذي يمر كنسمة ويبقى كالهمس ويغادر دون الحاجة لسؤال موعد خارج الجدول المتوقَّع.

مرحبا، للذي يصنع له الآخرون برامج للتغيير والتحفيز ويتلون عليه آيات الانعتاق من العاديّة، الذين بأنفسهم يشاركونه ذات المصير، بينما يصل هو لأن الطريق انتهى فحسب، ويصلون هم بأعلام انتصار أو نصوص هزيمة، والكثير من الحكايات التي تصدّع رأس توقّعاته.

مرحبا للذي يكتفي بعناوين الأخبار، يمحو نصفها من رأسه عند أوّل فاصل، الذي لا يجد حاجة لقلب القناة عند الإعلانات ولا يسألك عن قصّة الفيلم الذي فاتت بدايته.

مرحبًا أيّها المتوقَّع الاعتيادي:
“اتفضّل، ..اشرب معي، من فضلك”