… الكتابة كفعل منجاة لم تكن غايتي في فترة مبكرة بقدر ماكانت غايتي هي التعبير، تصف سيمون دو بوفوار نفسها بالفتاة الثرثارة حيث الكتابة نتيجة طبيعية لها، بالنسبة لي لم أكن كذلك، إذا جلست بجانبي لمدة ساعتين لن أفكّر بفتح موضوع للحديث، سأستمتع بالصمت، إذا كنتَ مُلفِتا سأنظر إلى وجهك دون أن تشعر وبعدما تشعر كجزء من تأزيم الموقف المربُك، لكنني لن أتحدث معك رغم ذلك. كنت مأزومةً بالتعبير قبل الكتابة، كحاجة شديدة الإلحاح للتعبير عن مساحتي الوجودية، آرائي الساذجة، مواقفي الاعتباطية، والمبالغة في إشهار حدودها أمام العائلة، عندما كان النوم مبكرا مفروضا على الجميع من أجل المدرسة، كنت سرق ساعة إضافية من السهر بعينين ذابلتين من النعاس كنوع من الاحتجاج الأعمى. في الصباح أعِد نفسي في سرّي أنني لن أكرر ذلك لأن النوم على سفرة الفطور فعل فاضح لطفلة تريد أن تقدم نفسها كفتاة خارقة لا يؤذيها السهر، لكنني كررت ذلك حتى تعرّفت على إذاعة (مونت كارلو) ومسرحياتها المتأخرة، مشاهد من الدراما والحبّ والقُبلات الهوائية؟ يا سلام! هذا ماكنت أحتاجه للتعبير أنني – فوق أني خارقة.. من فضلكم!- أستطيع الحصول على حكايات للكبار فقط، في البدء كنت أعيد التردد للإذاعة المحليّة ومسح الآثار اللصوصية، ثم مللت من ذلك واخترت أن أتركها على مونت كارلو، لأوجّه لوالدي رسالة من نوع ” نعم أقصدك” .. كنت أفكّر في ذلك كحدث خطير سيغيّر مجرى الكون، لكن كل الذي حدث هو أن والدي كان يبحث عنها ووجده أمرا مريحا أن يتم ضبط الموجة له، لم يتكلّف حتى بالسؤال عن الذي اكتشفها. وكان هذا محطما للكبرياء، يا سيّد.. كيف لا يمكنك أن تنتبه لهذا الفعل الثوري الخطير؟
.. كنوع من التصعيد انتقلت للخطوة التالية، برنامج إذاعي خاص لشؤون العائلة، وظّفت فيه أخوتي كفواصل إعلانية، وسجّلت حلقات البرنامج على أشرطة والدي (مثلا فوق أغاني أم كلثوم التي كنت أراها مطوّلة بشكل غير مبرر) ثم أخبئها عنه، في البرنامج كنت كثيرا ما أخرج عن النصّ بشكل محرج، أشتم مثلا أو أبصق على أشخاص معيّنين لا أحبهم، أذكرهم بالاسم، ثم أشير لأخي ليتدخل بفاصل ينقذ تدهور الموقف. بعد الفاصل أعود وكأنني شخص آخر تمت تهدئته وصوت فتاة مُنعّم تتحدث عن كونها “واو!.. رائعة!” ثم أقدّم أغنية السهرة بكل النشاز الممكن الذي أخلّله بضحك وتصفيق وتعليقات من نوع “الله عليكِ يا ست”، وفي الختام أسرد أسماء فريق العمل وهي اسمي مكررا، ثم أعد “المستمعين” بحلقات أفضل وأكثر سخونة. المقصود بالمستمعين طبعا.. أنا.
كانت حاجتي للتعبير تفوق قدرتي على الكتابة، حتى أصبحت الكتابة ملاذا لعجزي عن التعبير، العجز الذي شعرت به منذ اللحظة الأولى لشعوري بنفسي..
تقول دو بوفوار:
” كان عمري خمس سنوات ونصف.. وكانت تُسكرني فكرة أن أمتلك حياة تخصّني وحدي”
… أستطيع أن أنتمي لكل حرف في هذا السطر. سيمون في “مذكرات فتاة رصينة” لا تقدم الصورة التي أنتمي إليها كـ “فتاة في منتهى الشقاوة” لكنها بالضبط المذكرات التي وددت قراءتها، حقيقية وصريحة ومباشرة، ووجدتني أتقاطع مع كثير من ذاتيّتها، تمثّل مرحلة من ثلاثة مراحل من سيرتها، تحديدا مرحلة الطفولة وتكوين الشباب، سأحرص بالتأكيد على إكمال بقيّة الأجزاء، لن تجد تفصيلا لحكايتها مع سارتر إن كنت تبحث عن ذلك، أعتقد أنني سأقيّمه بخمسة من خمسة.
لم أهتم مسبقا بالقراءة لحسين البرغوثي، عندما اقترحته العزيزة خلود قالت ” ما أعرف إذا ممكن اعتبار الضوء الأزرق سيرة ذاتية، لكنه سيرة مجنونة لعقل البرغوثي” هذه العبارة حفّزتي فورا لتثبيت الكتاب على القائمة، أثناء القراءة .. تمنّيت لو أنني قرأته في فرصة أخرى، عندما أكون في مشروع قرائي كهذا ألتزم بالحفاظ على رتم معين، وهذا من نوعية الكتب التي تودّ لو أنك تقرأها بأقصى ما استطعت من البطء والتلذذ، كما يقول درويش” تُحتسى على مهل” ، بعد الانتهاء منه وجدت تقييما لدرويش يقول فيه:
“..إنه نصّ لا يصنّف في جنس أدبيّ واحد، وهو ليس سيرة ذاتيّة بالمعنى المتعارف عليه، ولا هو رواية، إنه يذكرنا بسرديّات الرواية وبحميميّة السيرة، ولكنّ سيرة المؤلف هي أحد المكونات الأساسية لهذا النصّ المفتوح على كل أشكال الكتاب القادرة على استيعاب همومه الوجودية والثقافيّة والفلسفية…”
شكرا درويش لأنه اختصر كل ما أردت قوله، انتهيت البارحة من الكتاب، لكنني تباطأت في التدوين عنه، كأي حالة عجز تصيب أي كاتب عندما يصطدم بنصّ مُبهر، السرد ليس خارقا، لكن إذا كنت مثلي تفضّل القراءة الفلسفية الذاتية، والكتب التي تسجّل الأحاديث التي تدور في دماغك في منتصف اليوم، أثناء المشي، عند انتظار الإشارة الحمراء، أو عند جلي الصحون، وعند الفضفضة لصديق على واتساب، أعتقد أنك ستحب هذا الكتاب، لذلك تجاوزت النصف الأوّل الشخصي الذي أكتبه عادة هنا.
البرغوثي في هذه السيرة الذهنية – وأجرؤ على تسميتها كذلك !- برأيي استخلص الأصوات التي تجلس على طاولة دماغه، شخصية الرجل التركي”بري” هي تجسيد للجنون الذي خافه البرغوثي، هي الفصام الذي خشي أن يُصاب به، في أول ثلاث أرباع الكتاب قام بتصوير الجنون كحالة مرعبة لكنني ظللت معتقدة في داخلي أن دماغ هذا البرغوثي متلاعب كبير، وأنه معجب بالجنون ويودّ لو يمسّه، حتى وصلت إلى الصفحات الأخيرة التي قال فيها:
“ من اللطيف أن الجنون مغرٍ، غريب كم كان يجذبني، كم كنت أرغب به، وأنوي عليه”
وشعرت حينها بنشوة كما أنني: “صدتك يا برغوثي! يا لعّاب كبير!” لكنه استدرك موقفه وقال بعد أسطر عن الجنون:
“..ولكن لا أريد أن أراه، أو لا أجرؤ، أو لا أقدر على رؤيته، و”بري” كان يراه”
إنك ترى كيف تتجلى شخصية البرغوثي باسمها الحقيقي وضميرها المتكلم عندما تحضر شخصية بري، بل يمنح هذا التركي سلطة على عقله لا يودّ الخلاص منها، ويبكي على فراقها، … كم كنت تحب أن تكون مجنونا يا حسين، لكنك عوضا عن ذلك أنت مجرد دكتور في الأدب المقارن من جامعة واشنطن، لديك شهادة تبصم لك بأنك عاقل! أعتقد أنه استخدم الشخصية المناقِضة لتفسير ذاته، وبضدها تتميز الأشياء، والطيور لا تقع من أجل أشكالها يا أصحاب، الطيور تقع بطلقة قنّاص، والبرغوثي كان يقع مصابا في كتفه بلا شك..
بقية الشخصيات كذلك – في نظري- مجرد تجسيدات تدعم وجود البرغوثي، هي ذات التناقضات التي صورتها “ألف شفق” في شخصيات دمى، لكنني أحببت أكثر طريقة البرغوثي، أنا غالبا ما أميل للمتلاعبين.. وهذه مشكلة!
بيدي الآن مذكرات سيمون دو بوفوار .. لم أكتفِ من الكتابة للخلاص من الضوء الأزرق فوق رأسي، لكن هذا يكفي الآن.
للذاكرة حيلتها الانتقائية الغامضة في التلاعب في المشاهد، من حيث الوضوح، الترتيب، الحسّ الشعوري المرافق، غير أنّك كلما ضغطتها وتركتها لتتعتّق بفعل الزمن وحِدّة التراكم، وصلتْ إلى التركيبة الخاصة اللائقة بك، الحاذقة بشكل ممتع! أعتقد شخصيا أن انغمار المشهد تحت سنوات عديدة من عدم الاستحضار يجعله أكثر عرضة للانشطار عن شعورك، تقرأ كتاباتٍ قديمة وتسأل نفسك: من هذا الشخص؟ أحيانا ستجد شخصا يمكنك مصادقته، أحيانا ستُعجب به، وأحيانا أخرى ستقرر أنه من “النوعيّة” التي لا تروق لك، هذه هي الحذاقة الممتعة، والمتعة تكمن في أننا غالبا ما نحاول استحضار المشاهد على نحو يجعلها متسقة مع شعورنا الحاضر، نتلافى الانفصال، إذا كنت في مزاج جيد ستبدو طفولتك رائعة، والعكس! وأحيانا نصبها في قالب شعوري مُناقض، ستحكي لصديقك كيف عاقبك معلمك وأنت تضحك، في حين أن هذا بالضبط مالم تكن تشعر به وقتها، تقرأ في يومياتك القديمة تفاصيل مكثّفة الشعور بينما أثناء قراءتك تشعر أن الأمر مبالغ فيه، ربما نحاول حماية أنفسنا من الشعور مرّتين بما لم نصدّق أننا تجاوزناه مرّة.
المرّة التي تخلصت فيها من دفتر يومياتي الأول، كانت عندما نقلتُ غرفتي إلى المنزل الجديد، وكنت قد مللت من تخبئته فركنته، عُدت لقراءته بعد أن بلغت نحو الخامسة والعشرين، أي بعد عشر سنوات من آخر صفحةٍ كُتبت فيه، ضحكتُ كثيرا، ثم استثقلت مبالغات فترة المراهقة المطبوعة عليه، فقررت أنني لست بحاجة إليه وتخلصت منه، ندمت على ذلك لاحقا، لكنني أزعم أن لديّ ذاكرة ممتازة، تذكر الموجود فيه بنصوصه أحيانا، كان الانتقائية الواعية التي مارستها على هذا الدفتر المسكين نوعا من الرغبة في توحيد ثيمة الشعور بين مامضى وما أعيشه، قررت أن الثيمة هي الشعور بالخفّة، والتخفف من هذه المبالغات، ذات الثيمة الانتقائية التي تجعل رجلا فقد جميع أخوته وزوجته وابنته ووالديه وشارك في حرب أهلية، يستحضر حياته في المجمل بأنها “حياة في غاية البهجة” ، إنه أيضا يحمي نفسه من الشعور مرّتين بما أنهكه الشعور به لمرّة..مارك توين.
*مارك توين
” كم يبدو لي غريباً وعجيبًا أني عشتُ، وعشتُ، وعشتْ..وواصلت العيش في هذه الحياة..”
مذكرات الكاتب الساخر مارك توين (1835- 1910) ، هي ما كنتُ أبحث عنه منذ أن بدأت القراءة في السير الذاتية، اللغة السلسلة، سحب القارئ لملعبه الخاصّ، القصص المتوالية، التسلسل التاريخي..العائلة، الأصدقاء، العمل، النجاحات، الفقد.. يقول عن فقد ابنته المقرّبة:
” الآنسة جين ميّتة! أظنني أعرف الآن كيف يحسّ جنديّ تخترقُ رصاصةٌ قلبَه”
دون أن يفقد المحاولة في الشعور بالخفّة – إجمالا – :
” إنّه سرّ من أسرار الطبيعة البشريّة أن يتلقى الإنسان دونما أدنى استعداد منه صاعقة كهذه ويبقى مع ذلك على قيد الحياة..”
“إذا كنت مصرّا على قراءة هذا الدفتر فـ نعم .. أنت مقصود به“
كان هذا آخر سطر في الخطاب الافتتاحي ليوميّات الصغيرة، والتي تحتوي على عدد لا بأس به من الاعتراضات على أفراد العائلة والمدرسة والزميلات، تلك التفاصيل الصغيرة كانزعاجي من باب غرفتي الذي ضاع مفتاحه، أو غضبي من كون فترة الفسحة لا تكفي للشراء من المقصف الذي تحتله الفتيات الأضخم حجما، أو شتائمي لأختي الكبرى التي لم أفهم كيف لها أن تتصرف بكل هذه الغيرة، في إحدى الصفحات أذكر أنني شخّصت حالتها وأعطيتها وصفًا طبيا، بعد ذلك بدأت أتعاطف معها وأعبر عن حبي، وهي لا تهتم لأي من هذه التفاهات، كنتُ أكتب عن والديَّ أيضا، في البدء كتبتُ بعمومية وترميز ودون ذكر تفاصيل واضحة على طريقة ألف شفق، لكنني مللتُ بعد عدة صفحات وشعرت أنه لا قيمة لما أكتب مادام لايعبّر بشكل حقيقي، ثم صرّحت بكل شيء، وبما أن دفتر اليوميّات على هذه الحالة أصبح ملغّما بالاعترافات كان لا بد من ذلك الموشّح التحذيري، وعلى طريقة الـ (خاربة خاربة!) قررت أن أبيّن لمن يسطو عليه – من العائلة على الأرجح- أنني فعلا أقصده… لا أعرف ما الداعي لهذه العبارة مادامت الأسماء صريحة في الداخل، أعتقد أنني كنت أحاول الحصول على أفضلية الاعتراف بدل أن يحصل الآخر على أفضلية وضع (الكشف بالجرم المشهود) كان هذه طريقتي الدائمة، عندما أقوم بأمر مخالف، وأعرف أن الأمر قد كُشف، أستبق لحظة المواجهة وأذهب إلى والديَّ وأعترف بنفسي.. لطالما كرهت الهروب من المواجهة، وهذه ليست بطولة بقدر ماهي رغبة في تفادي حالة الطرف المهزوم، الأمر الذي بقيت أتفاداه حتى الان..يروي ساراماغو: “ اترك زمام أمرك للطفل الذي كُنته”
*الذكريات الصغيرة، ساراماغو
انتهيت البارحة من مذكرات الأديب البرتغالي جوزيه ساراماغو الحاصل على جائزة نوبل ( والحصول على جائزة نوبل لا يعني شيئا) ، مجموعة من المشاهد الصغيرة في نحو ١٨٠ صفحة التي يعتقد ساراماغو أنها دون سواها الأكثر تأثيرا في شخصيته، وبدون انتظام تاريخي، شجارات العائلة، غيرة الأنداد، سرقة الشوكولاتة، لحظة البلوغ، الفتنة الأول،تجربة الصيد، الصور الفوتوغرافية…، لفت نظري هذا المشهد:
عندما كان في المدرسة كان الطالب الأنجب يجلس بجوار الباب ليتولى مسؤولية فتح الباب وغلقه وكانت هذه مكانة تشريفية عالية، قررت المعلمة ونظير تطوّر مهارات ساراماغو في الكتابة أن تُجلسه عند الباب لينال شرف هذه المسؤولية، لقد منح هذا التصرّفُ البسيط ساراماغو شعورا كثيفا بالتقدير، يقول:
“ لم أجد أمامي سوى خلع الملك السابق من فوق عرشه..أعبر الفصل أمام نظرة زملائي الحائرة، أهي نظرة إعجاب أم حسد؟ ويقلب يخفق، أجلس في مكاني الجديد… عندما منحني “نادي القلم” جائزة عن روايتي “عندما تنهض من الأرض” رويت هذه الواقعة لأؤكد أنه لا توجد “لحظة مَجد” حاضرة أو مستقبليّة من الممكن أن تقارن بتلك اللحظة.. ولا حتى أن تكون ظلا لها! .. مع ذلك لا أستطيع أن أكف عن التفكير في الصبي المسكين الذي طردته المعلمة ببرود من مكانه..”
ربما يا ساراماغو في مكان آخر من العالم، هنا طفل يكتب في يومياته عن اللحظة التي انهزم فيها وخُلع من عرشه بدون تبرير.
أتذكر أنني كنتُ ألف نفسي وأحشرها في مربع داخل دولابي، كما يفعل أيّ شخص مع بيجامته الطريّة المكويّة قريبا، يحدث ذلك في عمر التاسعة تقريبا، ولأنني لم أكل أشغل كافة الحيّز كنت أُدخِل معي أعدادا من صحيفة عكاظ ومجلة سيدتي، وأغلق الباب وأقرأ… الجو المخنوق لم تكن تنقصه رائحة ورق الجرائد والمجلات التي تثير الغثيان بشكل يصيبني بدوخة مزعجة، أفتح باب الدولاب.. أخرج لأتنفّس، لا يعجبني الحال فأعود مجددا.. أذكر أيضا أنني قررت إيجاد حل لهذه المشكلة، كنتُ أفرك أصابعي بورق الجرائد لأكتشف من أي شيء صنعوها ليحمل هذه الرائحة الزيتية الغريبة، والنتيجة أنني أحصل على يدين صغيرتين ملونتين بالأسود الداكن، سرعان ما أنسى وأرفع غرّتي المنسدلة لتنطبع بصمات سوداء في جبيني وحول عينيّ، حبر الجرائد مع مزيد من الغثيان، كل ذلك كان يحصل دون أن أتوقف عن القراءة، قراءة الكلمات المتقاطعة، المقالات، القصائد،الشريط الجانبي الذي يحتوي على تسعيرة المجلات والجرائد في الدول العربية، في بعض الأوقات كنت أحضر آلة حاسبة لأحسب فرق العملة، ليس لغرض اقتصادي بالطبع لكنه الفضول الساذج،كنت أقرأ عنوان المجلة في كل فروعها، أرقام البريد، أسماء الشوارع، كنت أستغرب لماذا في مصر لديهم أسماء للعمائر؟ لماذا أصلا يكون مكتب العمل في عمارة اسمها قوت القلوب الدور السابع، شقة أربعة، على شارع السندباد، لا بد أنهم يحبون سندباد في مصر إلى درجة افتعال كل هذا العنوان لتسمية شارع باسمه، لم يكن معتادا لدينا أن يكون للعمائر أسماءً بداخلها شقق لمكاتب عمل وعيادات أسنان، أذكر أنني كنت أتصوّر نفسي مديرة تحرير، كنت أقول لنفسي: لو كنتُ مكانها لاستبدلت لفظة (عمارة) بـ (مبنى) ولمنحته رقما وحرفا مثلا: مبنى ج٦٧ واستبدلت لفظة ( شقة ) بـ ( مكتب) فالقراء- على كلًّ- سيراسلون المكتب عبر البريد ولن يأتوا ليكتشفوا أمر تزييف العمارة! أعتقد أنني كنت أستغرق وقتا طويلا في قراءة هذه الهوامش، هي ذات الفترة التي أصبح لدي فيها دفتر يوميّات خاص، وسرّي جدا، طبعت على صفحته الأولى خطابا شديد اللجهة لمن يجده وتسوّل له نفسه قراءته، يوميّات كنت أهرّبها باستمرار
سأكمل الحديث عنها تباعا خلال هذه السلسلة…
* حليب أسود، ألف شفق
قررت أن أخصص هذا الشهر لقراءة السير الذاتية والمذكرات التي يكتبها أصحابها بأنفسهم، هذا هو الشرط، ٢٥ سيرة كحد أقصى، لكنني أفكر بالاكتفاء بالرقم عشرين، كتاب لكل يوم، ربما تصبح هذه عادة في المدونة، عشرون تدوينة، عشرون سيرة ذاتية، عشرون وصفة لأم علي وهكذا..
حليب أسود من العناوين التي رشّحها لي الرفاق، تجيئ هذه المذكرات كحالة متوازية مع حالة اكتئاب مابعد الولادة التي خاضتها الروائية ألف شفق، وأقول متوازية لأنها لم تتمكن من جرّي – كقارئة – إلى داخل الحالة، إلى داخل دوامة الاكتئاب، لقد اكتفت بفتح النافذة واسدال ستائر شبه شفافة على ذاتها، ثم أرادت مني قراءة ذلك والشعور بكل تفاصيله في ٤٠٠ صفحة، في الواقع ، السبب لاختيار ثيم القراءة الذاتية هذا هو أنني أردت أن أدع شخصا جرئيا ما، قام بصبّ خلاصة ذاته في مذكراته، بكل انحيازاته، بكل عدم الموضوعية الفاضح، أدعه ينتقل بي من أقاصيه إلى أقاصيه، على العكس من ذلك، كانت ألف شفق – النسوية- تختبئ خلف قصص متعددة لحيوات نسويات أُخر، وعندما تأتي لذاتها كانت تتحدث عن البنات أو جوقة الحريم المتعددات في داخلها، هذه فكرة مسليّة لعرض فكرة التناقضات التي نمارسها جميعا، لكن ألف شفق فضّلت اللعب بالفكرة على تقديمها. رغم أن إحدى البنات الأنمليات بداخلها كانت من برج العقرب، صديقتي يعني في ذات البرج، لكنني لم أستطع رفع الستار لرؤيتها. إنها حتى لم تصف حالة الاكتئاب، نموذج للنسوية المقلِقة التي لا تود الاستماع لها وهي تتحدث، لأن لديها أفكارا جيدة لكنها – طبعا – لا تعرف كيف تعبر عنها دون أن تشتم رجلا أو اثنين، برأيي أن ألف كتبت هذا الكتاب فقط لتبرر لجمهورها كيف – كنسوية – كانت ترفض الزواج والانجاب ثم تزوجت بكل مافي فكرة الحب من سطحية، ثم أنجبت بكل مافي فكرة الانجاب من حتمية، بل وكررت لذلك، ووضعت كل ذلك في إطار ( اكتئاب ما بعد الولادة ) لتكسب بعض التعاطف، لتجعل الأمر يبدو كنضال نسوي، لم أشعر أنني أقرأ مذكرات بقدر ما شعرت أنني أمام امرأة تشعر بالخجل لأنها مارست أمرا رفضته بشراسة، وتحاول أن تجعل الأمر يبدو لطيفا وحزينا ومليئة بالبهجة في الوقت ذاته، لقد بذلت جهدا كبيرا في المحاولة جعلني بالفعل أشعر بالخجل من أنني رأيت ذلك، فتخليت عن النظر من النافذة مع آخر صفحة. اذهبي يا ألف خلف خجلك، سأتظاهر أنني لم أرَ شيئا.
الموازنة التي أرجوها عند بذل جهدي في تشكيل هويّة هذا العقل، هي ألا أفقد – تبعًا لذلك – طَيْشي، أن تكون حماقاتي جزءً غير شاذّ في وعيي، ألا تهدأ فورة الأدرينالين في دمي، أن تبقى نزعاتي مندفعة بسرعة الذهول نحو طرف الهاوية، وأن يبقى رأسي قَلِقًا مليئا بالأحلام، بالأفكار القذرة، وعندما تحضر النباهة لا أريد أن أمتنع عن القفز نحو المجهول بدافع المزاج، والمزاج فقط.
أريد أن أرى الصواب كما هو، والخطأ كما هو، ثم أختار أن أُخطيء لأن ذلك ممتع في كثير من الأوقات، وأعود لأُصيب لأن على الأمور أن تبقى في مسارها الصحيح رغم ذلك.
أريد لفهمي أن يسبق توضيحك بجُملتين، مع ذلك أستمر بالإصغاء، لأن الإصغاء ممتع، وبدقة أكثر: الفوز في الوصول إلى خط نهاية الفكرة قبل وصول تعبيرك هو الممتع، هذه الانتصارات المهمّشة أكثر قيمة من الفكرة ذاتها مهما تكن، ولا أريد أن أتوقف عن المجازفة لأنني أجيد التحليل. أحبّ الجداول والمنظّمات أحب س وَ ص وبما أنّ ..فإنّ ، مع ذلك لا أريد أن أفقد حماسي لمجرد التخمين، لخسارة مبلغ مالي في مراهنة عمياء. وأجرؤ أن أقول أن بناء الوعي وغايته ليس أن يجعلك أكثر جمودا وأكثر صوابا وأكثر انضباطا، الوعي غايته أن تكون عليمًا بما يدور في رأسك، أن تفعل ما تفعله بأقصى ما تكون إرادتك، الوعي ليس صفة قيميّة.
قد أكون محظوظة للغاية لأن موازنة من هذا النوع، لا تبدو جهدا مُعاكسا بالنسبة لي، ولا موازيا، بل هو مسار متناغم، لا أشعر بانفصاله، وأحب تناقضاته، ولا أجد مشكلة فما دمتُ أردتُ ذلك فهو أمر واعٍ! إنني ذلك الشخص الذي ينزعج عندما يفعل أمرًآ خاطئًا لأنه فعله بشكل رديء، وليس لأنه خطأ، لذلك غالبا ما أحرص على الأخطاء الرائعة، الاستثنائية، على تجميع الكثير من الأعياد مزينة بباقاتٍ من الحكمة والصّواب. أريد أن استمر في استكشاف قيمة الأشياء ثم أفعل ما استلذّه منها بغض النظر عن تلك القيمة، ثم أعود وأقدّرها بحسب قيمتها، دون مساءلة، ذلك ما يوازن بقية الأيام، وبقيّتي.
يحدث لك أن تكون مهيّأً لالتقاط معنىً كثيفا في أقصر عبارة، كالاقتباس في أعلاه، إذا كان هناك إجابة نموذجية لكل الأسئلة التي أواجهها في هذه المرحلة، فستكون على هذا النحو: في البدء شعرت، ثم حصل ماحصل!
” أخبروني أن الأشياء حدثت لأني شعرت، ولأني كنت مستعدة لذلك، ابتسمتْ، فأنا شخص كثير التحليل والتفكير، لنرجع قليلا للوراء، الأشياء كانت…. ثم شعرتْ ثم عرفتْ، أنا في منتصف الحدث يا سادتي، وفي الحقيقة لا أحد يريد أن يستمع للتّسلسل الحقيقيّ“
يحدث لك أن تكون “لكيعاً” للغاية وتفضّل إعادة الشريط للوراء، وتتبع نسق الحدث، لحظة الشعور، لحظة انبثاق النتيجة، لتتأكد أن كل الأمور تسير بمنطقية سليمة، تسير بخير، ثم لن تكون أنت بخير، أنا أخبرك من هذه النقطة أنك لن تكون بخير تماما عندما تعيد الشّريط وتجزئ المشهد، عندما لا تكتفي بأن ” حصل ماحصل” فحسب، عندما لا تنسجم مع كل هذه السلاسة، وتفضّل أن تعيد صياغة الأمر على نحو حقيقي تماما، وللدقة أكثر: لن يكون السؤال مطروحا: هل أنا بخير فعلا؟ سيكون السؤال: هل ما حدث حدث بشكل صحيح؟ هذا المهم.
ستسمع كثيرا عن السكون في اللحظة، عن ترك الأمور تأخذ مجراها التي ستشقه بغير إرادة منك، عن التخلي عن الأفكار والأحداث والأشخاص الذي يجعلون مشاهدك الحياتية تسير على نحو بطيئ ومعقّد، أن تدع الأشياء “تحصل” فحسب، ستسمع عن كون هذا الأمر سهل، ومريح للغاية، لكنك في كل مرحلة تحاول الاستجابة لمسار الريشة الذي قرّرته الرّيح، ستجد نفسك ” ترجع قليلا إلى الوراء” باحثًا عن التسلسل الحقيقي، ليس الأمر بالسهولة التي تم تصويرها. ثم لن تكون قادرا على تصوير المشهد عكسيا للآخرين، لن يفهمونك أبدا، لن يفهموا لماذا تفضل الرجوع للوراء باستمرار، لن يفهموا لماذا تفضّل النسخة الحقيقية على النسخة السهلة بطبيعة الحال، وعندما تعجز عن ردم الهوّة ستخبرهم : حصل ما حصل فحسب.
ولأن الأمر مُتعبٌ بحق، فلا تبحث له عن خطة إنقاذ رغم ذلك، ابْق قَلِقاً ، ارجع للوراء، احتفظ دائما بالنسخة الحقيقيّة.
أُعيذك من حبّ شاعر، ليس بنفس القدر الذي أعيذكِ به أن تتقاسمي موعدا مع رجل تلتف الكلمات حوله كجواري تم بيعهن مرّة أو مرتين، نصف كلامه مُرتجل بعناية والنصف الآخر ملغّم بالاقتباسات، الذي يستمتع بأن يقول لك أكثر مما يستمتع بأنكِ تُصغين إليه، إنه حتى لم ينتبه لذقنكِ الناعم المستند إلى كفّك وأنت ترقبينه، لم يلاحظ بعد كُحلكِ المتقن وعينيك المولعتين، لكنه ينتبه كثيرا إلى المجاز المركّب في العبارة التي يريد أن يعرضها عليكِ تاليًا، هل تدركين ذلك؟ إنه يقدّم لك مسرحا من الكلمات، مسرح مبهر للغاية، منحكِ تذكرة صفّ أول مجانيّة وهو يعتقد أن عليك أن تشعري بالحظ الوافر لأنه فعل ذلك بينما تنتظر بقيّة الفتيات مروره ليصرخن باسمه، وبين كل ستارٍ وآخر سيكون عليك أن تصفّقي، لا تواعدي رجلا يحبّ الكتابة ويريدكِ أن تكوني جمهوره الأوحد، أنتِ لستٍ مجرد فتاة تشجيع.
ستكتشفين أنه يسألك سؤالا ثم يلقّنك إجابة أنيقة تتّسق مع سؤاله المحبوك وذلك في أحسن الأحوال، غير ذلك سيلتقط الإجابة من فمكِ وينسبها إليك، سيسألك: كيف حالك اليوم؟ وعندما تشرعين في إجابة موجزة، سيقول: كان يومي سيئا، تصدقين؟ ستصدقين .. لأنها تلك هي الطريقة الواحدة لاسترسال الحديث معه، أن يتراخى هو تحت الضوء ويخبرك أن لديه ظلّ دافئ ييق بجميلته، لكنكِ لم تشعري بسخونة الموقف بعد، الظل بارد، أليس كذلك؟
تتناولين يده بيديكِ، بينما تشعرين أنك قد أخذتِ، يشعرُ هو أنه أعطاك، إنها مجرد مُناولة عفوية.. ستعتقدين، لكنها ثلاثة أكف لا أربع ستدركين لاحقا، وعندما يقبّلك لن يترقب لمعةَ عينيكِ لأنها يفترضها مسبقا، ما الذي سيقلقه من ردة فعل فتاة التشجيع؟ لا شيء. لن يلاحظ أنك تكرهين تقديم القُبل كفصول في كتاب، كمجاز، كنصّ مسجوع مكرر، لن يلاحظ أنك أحببتيها مجرّدة، مُسترسلة، كحكاية ينطوي حدثها المفاجئ في السطر الأخير، كنّص مفتوح. وقصيدة تفعيلة لم تخلُ من وقع الجرْس دون أن توغل في رتابة القافية، لن يلاحظ شيئا من ذلك.
إنه يحب الكتابة، يعيش عمره باحثا عن نصّه المثالي، ستجدين أنكِ الحرف التاسع والعشرين الذي يرجو منه أن يصنع معجزته التي لن تكون، ثم سيلومكِ بغضبٍ عبثي سرعان ما يسكن، فهو يريد أن يكتبك رغم ذلك، وهذه فرصته الذهبية. وإنّك ستجدين رغم كل ذلك الدروان سببا للولعِ به، هناك دائما سبب للولعِ برجل يحبّ الكتابة، ليس في هندامه بالتأكيد، ولا في لطافته المبالغ فيها مع كل فتيات التشجيع على الجملة، هناك دائما سبب كامن سيدفعكِ إلى الجنون، سترينه دون أن يعرف ذلك، ستلمسينه في قلقهِ من تفويتكِ، في خضوعه الدائم للاستهداء نحو قِبلة تلم شتات جهاته، لن يخبرك أنكِ قِبلته لكنك ستكونين كذلك بالفعل، الذي يقع في دوامة الكتابة سيضجّ رأسه بالدْوران والقلق وستكونين نقطة ثباته.
هناك دائما سبب للولع برجل يكتب رسالة نصيّة تحوي اسمك فحسب، لكنه سيرنّ في قلبك كما لو أنه يشدّ حبل نجاته بكل مافي الكتابة من غرق.
بالكاد تكتمل دائرة “الشلّة” حتى عندما تعطي موعدا صارما اسمه “بعد العِشاء”، ما الذي تعنيه كلمة صارم؟ إذا كنتَ تعيش في مكان “مغلقٍ للصلاة” سيفترض أنك اعتدت عُرفيا أن الرّبع ساعة قبل الأذان التي يخبرك فيها الكاشير أنك مطرود هي بالضبط “قبل العِشاء” أما “العِشاء نفسه” فهو الوقت الذي على الأرجح لم تعرف حتى الآن ما الذي يجب أن تفعل فيه، الوقت الذي تعلق فيه في سيّارتك، وقت تكون فيه حائرا وضائعا حتى أنك تسأل نفسك كل الأسئلة التي تهرب منها: لماذا لم أقدّم استقالتي حتى الآن؟ لماذا ابني ليس ذكيّا كما تأمّلت؟ لماذا لم أكلّم رفيقي حتى الآن؟
.. وهنا تعرف أن “بعد العشاء” هو عندما تفتح أبواب المحلات وتعود أسئلتك للهرب، وعندما يخبركِ أخوكِ أن تنزلي إلى السيّارة الآن! … تخيّل رغم كل هذا الوضوح الصارم يُصرّ الجميع على تبرير التأخير المتعمد باللغة الفضفاضة.
تعرف كل واحدة منهنّ المكان الذي ستجلس فيه في زاوية المحفل، تبدأ الأفكار المرتجلة والأسئلة في التداول على الطاولة بعشوائية واندفاع النِرد في الرمية الأخيرة، فهذا بالضبط ما يجعلهم متمسكين بالحضور، تبادر منى:
– ليلى، هل يُريحك كونك البطلة الرسمية للقصائد؟ شعور جميل؟
ليلى : قصدك شعور معلّب!
– طيب، في الأغاني؟ الليلُ يا ليلى؟
منى، أنا الآن أصبحتُ أشاهد الأفلام أون لاين!
تقاطعهن حنين:
يا لطيف! انخفضت المعايير؟
أسطوانة مشروخة لفتيات يتحدثن بلغة حتميّة، بالضبط كما في كل مجلس “شباب” هناك زاوية تتحدث عن الفتيات بلغة مُتوقّعة وبسيطة، وزوايا آخرى في كل مجلس لتقييم الطعام أو الأجواء التي يعرفها الجميع مسبقا، أو لمشاهدة الإعلانات بين البرامج. في كل مكان يجتمع فيه شخصان فأكثر للحديث سيظهر طيف من المعايير التي تعلو رأس كل متحدث على شكل نافذة محادثة أو على شكل لوحة عرض تقديمي مُجدولة، حنين هذه مثلا لديها مزاج طربي حادّ، سيمكنك أن تفاوضها على أهم قرارات حياتها لكن لا تفاوضها في “رجّعوني عينيك” وأنا أتفق معها إلى حدّ ما لكن اتفاقي راجع إلى معيار ذاكرة عاطفية، بينما هي ترى الأغنية: ” المعيار ذاته” …
تسلّم على صديقك أوّل اليوم، فيخبرك أنك تبدو مغتمّا، تبدأ في رؤية شرائح التقييم تتقلّب فوق رأسه، تؤكد له أنك تمر بمجرد يوم “عاديّ” فيصرّ عليك أنك لست كذلك، سترى دائرة حمراء على شريحة معاييره، هاهنا بالضبط أمكنه اصطيادك، لقد لاحظ أن نظراتك لا توافق حديثك، أنت شارد البال، سيبدو الأمر مباغتة فمنذ متى والرجال ينتبهون لهذه التفاصيل؟ أنا أشاركك هذه الصدمة، لكنها تحدث، يحدث أن أحدهم يطبق عليك معايير حتى وأنت تمارس ” عاديّتك” ثم سيكون عليك أن تمرر الموقف كيفما اتفق، النّاس مجانين يا صاحبي، وعندما يبدأون بالتخمين فإنهم غالبا لا يكونون على حق، لديهم هوس بإثبات أنهم يعرفون عنك أكثر مما تتوقع، لا عليك، مرّر.
هناك آخرون سيبنون سلّما تقييما أخلاقيا بناء على الجودة التي تفضّلها في مشاهدة فيلمك، أو الطريقة التي تصفّ بها طبقات الساندويش، وحتى ترتيب القائمة في ساوند كلاود، ولأن الناس مجانين – مرة أخرى – فإنهم مهووس في تكوين الأتباع ، سيبذلون جهدكم لكي يضمّوك إلى فريقهم، ليظهر فوق رأسك نفس جدول التقييم الذي طبعوه، سيخبرونك أنك حينها رائع، ومتميز، و “تفهم!” ، في نهاية المطاف ستجد نفسك تخجل من التعبير عن القصيدة السخيفة التي أعجبتك، لقد أخافوا قصيدتك.
عندما تأوي إلى الروتين، وإلى تأكيد ذات الاختيارات الهامشية كل يوم: ماذا ستطلب على الغداء، أي طريق مختصر ستسلك، كيف ستمرر الوقت الفائض، العصير المرافق للوجبة… ستحصل على حياة أسرع، وأكثر سلاسة وهذه ميزة، لكنك ستفتقد اكتشاف طعم جديد ورائحة جديدة ومكان جديد وهواية جديدة وهذه بالتأكيد ليست ميزة خاصة لشخص سريع الملل، أنا سريعة الملل لذلك في الفترة الماضية قررت أن أخوض تجربة لمدة سبعة أيام متتالية، في كل يوم سأتخذ قرارا مختلفا عن القرار العفوي اليومي الذي كنت سأتخذه بالعادة، وعندما يكون الأمر متاحا فإنني سألتزم بفكرة أصعب: سأختار أكثر شيء لا أرغب عادة باختياره، في الأمور البسيطة اليومية التي قد لا تشكل أهمية، لكن بالنسبة لي فإن اكتشاف طعم جديد مثلا … هو حدث جميل وجيّد
في اليوم الأول مثلا أردت شراء عصير “الليمون بالنعناع” والذي أطلبه يوميا في منتصف اليوم بعد القهوة، بدلا عن ذلك كان عصير الرمان هو أكثر شيء لا أفكر باختياره ولم أذقه من قبل، فاشتريته، إن كنت لم تجربه حتى الآن فأخبرك أنه لذيذ ويستحق.
ولأن التجربة كانت ممتعة، فتلقائيا لم أنتبه إلا في نهاية الأسبوع الثاني، هذه قائمة ببعض الخيارات اليومية البسيطة التي اكتشفتها ولم تكن ضمن منطقة الراحة عادةً:
– تورتيلا حار.
– فاهيتا بالموزايلا!
– توپ Blue Navy
– Rose Gold” jewelry”
– وجبة: ميديم رير 😕
– ثلاث طرق مختلفة للدوام، بنفس الوقت.
– ساق البامبو – كتاب Be happy without being perfect
– طعم البابونج المركز.
– Beesline Sinkcare Package
– الخروج بدون Coco mademoiselle
– الكتابة بقلم مقاس 0.7
– حقيبة يد بلون بيج.
– Sugar – color contact lenses