في وداع سنة مُرتَجَلة 2023!

تبدأ السنة الجديدة بالنسبة لي في السابع من نوفمبر من كل سنة، عشيّة يوم ميلادي، أحتفل وأقيّم عامي، وأخطط للعام الجديد، سنة 2023 لم تعطني رفاهية التوقف في شهر الميلاد، حتى الآن، وهذا بمثابة عنوان لتلك السنة، وثيمتها!

الملفّات:

أحبّ التخطيط، وهو طريقتي في التكيّف مع كمّ الأفكار المتخلقة في ذهني كل يوم، طريقة صحيّة، الطريق الأخرى هي القلق! وهذا شيء يصعب شرحه لمرتاحي البال على الدوام. التخطيط ينظّم أفكاري، ويفلترها، ينتقل بها من حالتها الأوليّة: تسونامي يجتاح دماغي ويستنزف مشاعري، إلى ملفات معنونة ومنظمة، ومفهومة، وبهذه الطريقة أمتلك الزمام – لحدٍ ما- .

 ملف الأحلام: وهو أكثر الملفات ضآلةً لا أستغرق في الأحلام كثيرا، الخيالات؟ نعم .. لأنها ممتعة، أما الأحلام فلا، فأنا لا أحلم إلا بأهدافي، ملف الأهداف؟ متضخم، ويستهلك وقتا أطول في فلترته وتهدئة روعه، أن تكون لك نفس توّاقة هو شيء رائع، لكنه مضلل في أحيان كثير، فأستغرق وقتا جديا في فلترة الحقيقي من هذه الأهداف، والمضلل منها. ملف الترّهات: وفيه أرمي الأفكار الحَشويّة -Fillers- الفارغة من المضمون، والخطيرة أيضا! لأنها من الممكن أن تتخذّ شكل فكرة حقيقية تشغلني وتقلقني، بينما هي في الأصل مجرد ملء فراغ أنتجها عقل لا يعرف الهدوء، وأخيراً: ملف القرارات، وهي التخلّصات التي أقرر عدم نقلها معي للسنة الجديدة، وتلك التي أريد أن أبدأ بها السنة الجديدة.

ارتجال!

لو كان لسنة 2023 عنوانا كبيرا، فسيكون “ارتجال” وقد بدأتُ التدوينة ببيان علاقتي مع التخطيط، لأضع سياقا سليما يوضّح فداحة الارتجال عندما أمارسه، وهذا لا يعني نتائج سيئة، بقدر ما يعني احتمالية كوارث متعددة على الطريق، وحالات طوارئ، وصفّارات انذار، والحقيقة أنني في نوفمبر 2022/ملف القرارات: قررت أن أمنح الارتجال مساحة أكبر في حياتي لأجرب مستوى مختلفا من العيش، وأول قرار في ملف القرارات لسنة 2024 هو: “فكّينا من الارتجال يا ست!” خلاص! اكتفيت. هذه حياة رائعة بالفعل لكنها لا تناسبني، أعني حياة يغلب عليها الارتجال.

أن ترتجل يعني أن تمتنع بوعي عن التخطيط والتهيئة، ولقد فكرت في هذا القرار -سنتها- لأنني أردت أن أرفع من شاعريّة حياتي! فيما سبق تلك السنة كنت أعمل على رفع الجودة وعندما حققت الجودة التي أرتضيها، خطر لي: قليل من الشاعريّة لا يضر! فكل الحضارات تمارس الارتجال عندما تريد أن تبدع، يمارسها المغنّي في العُرب فيُطرب، ويمارسها الشاعر في المحاورة فتنتشي القبيلة، ويمارسها المسرحي في عرضه فيمتلك الشخصيّة، فلم لا أرتجل؟ وكما يحدث مع الفنون فقد يكون الارتجال بارعا يشبه معجزة، وقد يكون مُربكا يشبه نكتة باردة، واللعب على الخط الفاصل بين الاثنين هو بالفعل شعور الهاوية، لقد شعرت طيلة سنة 2023 أنني على الحافّة، لا أفعل شيئا سوى أن أغمض عينيّ وأقفز، وأهوي! وحدثت لي معجزات، وعانيتُ نكتا باردة، وعايشت الاثنين معا في وقت واحد في مواقف كثيرة، وبقدر ما كان ذلك رائعا، بقدر ما كان كئيبا.

المعجزات:

عندما أخطط لحياتي فأنا ألخّصها -للتبسيط لا الحصر- في ثلاثة محاور (الذاتية/ الاجتماعية/ المهنية) ، الجزء الذاتي لا ألعب فيه! فقد كان مخططا، انضممت إلى برنامج سنوي في تأهيل سلوكي ومعرفي مصمم بالتحديد للكيمياء المتلاعبة بدماغي، أما سوى ذلك فارتجلت ارتجال من لا يخشى الغد، وقد حدثت معجزات، قد أشاركها لاحقا.

النكتُ الباردة:

لا أهتم كثيرا بمشاركة أحداث شخصيّة، فلست أحب التدوين كنشرة أخبار، وما أعتقد أنه يستحق المشاركة هو معاجلتنا لهذه الأحداث وكيف وصمت شخصياتنا، أو عرّفتنا على مشاعر جديدة، مالم يكن جيدا في الارتجال، هو الذي جعلني أعرف بشكل قطعي مالا يناسبني، لا تناسبني الحياة الفوضوية، غير المخططة بقدر كاف يضمن جودتها العالية دون أن يفقدها حلاوة الحماسة والفضول، ولقد اهتزت جودة حياتي وأعطتني طعم النكتة الباردة، وكان ذلك ثمن المعجزة، وهذا ما جعلني في المجمل سعيدة، مثخنة لكن سعيدة.

سنةً لا تنسى:

إن كنت لا أنسى سنة 2015 باعتبارها أسوأ سنة في حياتي – المريح أنني أعرف أنني لن أختبر أسوأ منها- ، فبدون شك فإن سنة 2023 لا تُنسى باعتبارها أغرب سنة في حياتي، وهذا ليس وصفا سلبيا، بل مجردا، حيث جربت الاغتراب على كل مستوياته، جربت نفسي خارج هويتها، وداخل هوياتٍ جديدة، أرعبني ذلك، ثم أحببته وولعتُ به، واكتفيت -حاليا- منه.

كيف كانت سنتكم؟

مُحادثات خطرة! كيف تتخلص من الاستفزاز في المحادثات

كنت أذرع ناصية بوليفارد الشيخ محمد بن راشد مشيًا -بعد خيبة أمل في غداء لذيذ – ووجدت نفسي أجتهد في العناية بكل مُفردة تخرج مني في مهاتفة عمل ساخنة بين شريكين يرفضان التعاون، وبين جملة وأخرى يتقاذفان إهانات إبداعيّة لاستمالتي لأحد الصفّين، ذلك النوع من الاجتماعات الذي يحاول أطرافه استخدام (المستشار/ة القانونية) فقط لإدانة الطرف الآخر، الأمر الذي يتعارض جذريا مع أهدافي.

 عندما تعملين في القانون فإن ذلك يشبه العمل في غرفة الطوارئ، سيأتي الجميع غاضبون، أو خائفون أو حتى راغبون في الانتقام، وربما على بُعد لحظات من ارتكاب حماقة أو جناية، ليس فقط في الأعمال، حتى مع العائلة والأصدقاء، قد نصنع أو نجد أنفسنا في محادثة خطرة، لذلك؛ وعند انتظار رحلتي للإقلاع كان كتابا بعنوان HBR’s Must Read On Communication لافتا، واشتريته فورا عندما رأيت في الفهرس مقالة: Taking the Stress Out of Stressful Conversations, By: Holly Weeks أو عنوان: تخليص المحادثات المستفزة من الاستفزاز!

نحن حيوانات تعتاش على الكلام، بالمعنى الحرفيّ للكلمة، نستلذ بإجراء المحادثات، قصديا وعفويا، يقربنا “الحشّ” من بعضنا كتعبير عن الثقة والتراص في ذات الفريق! نتجاوز الحرف إلى المجاز، ننسج قصيدة حوارية، وعندما ننفذ من الأشخاص نتخيّل حوارات والعة داخل رؤوسنا نستمر في تصعيدها بتخيل الردود، كيف يمكن لهذا الحشد الهائل من المحادثات أن يكون آمنا دائما؟ بالطبع؛ لا يمكن تلافي المحادثات الخطرة والمستفزّة، ، يمكنك أن تخسر وظيفة أو علاقة إنسانية رائعة لأن حوارا طائشا اغتالها.

تطوير المحادثات المستفزة عوضا عن تلافيها:

لماذا لم نفكر سابقا في “استثمار” المحادثات المستفزة؟ ببساطة لأننا لا نتوقعها، وبمجرد حدوثها تكون مشاعرنا قد انغمست فيها بما يجعلنا غير موضوعين، وتتضارب مصالحنا حينها مع ما يحدث. هل لاحظتم الخلل الجذري؟ نحن غير مستعدين!

الاستراتيجية الأولى: الاستعداد

يتطور الاستعداد من خلال تنمية جانبين أساسيين:

أولاً: المعرفة وهي رحلة وعينا بذواتنا، نركز دائما على “كيف تتعامل مع الشخصيات الصعبة” وهذا تركيز في المكان الخطأ! كيف؟ بلا شك أننا خضنا سابقا عددا من الحوارات المستفزة، عوضا عن التساؤل عن دوافع الأشخاص الآخرين، ووقاحتهم، أو حتى غباءهم، سيكون من الأجدى أن نتساءل: (لماذا وكيف) : لماذا نجحوا في استفزازنا؟ ما هي “نقطة الضعف الحساسة” التي ضربوها فهاجت مشاعرنا؟ هل كانت حساسيتنا عالية تجاه الشعور بالعدائية؟ بالتحدي؟ بالانتقاص من مهاراتنا؟ من عائلتنا؟ من خياراتنا الحياتية؟ أم ماذا؟ السؤال الثاني: كيف نتصرف عادة حيال استفزاز نقاط ضعفنا. هل ننسحب بهدوء أم نصعّد بلا هوادة؟ هل  نغلّب الحكمة والمصلحة التي تعزز موقفنا أم نرد الصّاع صاعين حتى لو كان ذلك ضد أهدافنا؟ كيف شعرنا بالمجمل بعد انطفاء الموقف، إيجابيا أو سلبيا؟
إن مراقبة أنفسنا بطريقة رحيمة لغرض تطويرها لا جلدها هي طريقة فعالة جدا في رفع استعدادنا في خوض المحادثات المستفزة ، عندما نجد أنفسنا في محادثة خطرة المرة القادمة، سنتساءل: هل هذه المحادثة تلعب على وترنا الحسّاس؟ هل يتجه الحوار/الاجتماع/ الخصام نحو مناطقنا المظلمة؟ نعم؟ لنستخدم أحد هذه التكتيكات:

تقسيم المحادثة: غالبا ما تفتح ملفات عشوائية في المحادثات الخطرة، يبدأ الحديث عن تأخرك في الحضور، ثم ينفتح ملف أدائك العام في الربع الثالث كله! يبدأ العتب على تفويتك حدثا هاما مع العائلة/الشريك، ينتهي إلى التفوّه بأنك بالكامل اختيار خاطئ! ولا يعود حينها العتب على  قدر المحبة، بل على قدر المحادثة المستفزة. هنا ناور بالتقسيم ، بقول شيء مثل: “طيّب، أعتذر على التأخر، أعتذر على غيابي المتكرر عن العائلة، أما فيما يخص أنني الاختيار الخاطئ، ربما! لنتحدث عن ذلك على العشاء الليلة، أوعدك” ثم أوفِ بوعدك. قد تنتهي محادثة العشاء بعبارة مستفزة أيضا، لا مشكلة، لمرة ثانية تابع التقسيم (لين الله يفرجها)

احترس من التحكم بك: في لعبة الشطرنج، يمكنك أن تتحكم في اختيار الحركة التالية لخصمك بخلق “حالة” تجبره على الاستجابة بتحريك بيدقه في مربع الفخ، ثم تصطاده، تضعه بين خيارين سيء وأسوأ: التضحية بالوزير حماية للملك! هل التضحية بالوزير كانت حركتك المرغوبة أم تحكم الخصم بك وسيادته على ملعبك؟ نفس الشيء يحدث في المحادثات الخطرة، قد تجد نفسك في وجه إهانة مُسدّدة لتخلق لك “حالة” موهومة بالخطر، حالة زائفة من الـ “تشك ملك”، تدفعك للتضحية بسمعتك، بمظهرك العام، بأخلاقياتك، بالعلاقة كلها من أجل “مربع الفخ” .. احترس من أن تكون مجرد مستجيب لفخاخ الآخرين، وفي حين تظن أنك انتصرت، سترى لاحقا عندما يختفي البارود أنك أطلقته على هدفك. وقتلت الملك! اسأل نفسك دائما: هل أنا أتصرف في هذه المحادثة لصالح أهدافي؟ أم أستجيب لخطة مضللة لتحقيق أهداف الآخرين؟ هل علي أن أتوقف وأنسحب؟

ثانيا: التدريب: لا استعداد بدون تدريب، اختاري صديقة تعتبرينها ممتازة في إدارة المحادثات وتثقين بصراحتها معك، ابدأي معها المحادثة المستفزة السابقة أو المتوقعة، وأخرجي كل مكنونك المستفز كما ترغبين، بدون فلترة، اسأليها كيف بدوتِ أمامها؟ هل الصورة الظاهرة تتفق مع أهدافك؟ سجلي ما الذي يمكنك تلافيه أو تحسينه؟ أعيدي المحادثة مرة ثانية ولكن اختاري مفردات أهدأ، قوية لكن ناعمة، هادئة وحاسمة، كوني متحكمة على سياقك الخاص. اسأليها الآن عن لغتك الجسدية، هل كانت متوائمة مع النبرة؟ كيف يمكن تحسين ذلك؟ … كرري.

الاستراتيجية الثانية: المناورة

في حين يطوّر الاستعداد قدرتنا على التحكم قبل استفحال المحادثة المستفزة أو حتى قبل بدئها، ويعزز قدراتنا الحوارية، إلا أننا حتما سنجد أنفسنا في قلب محادثة مستفزة لم نستطع تلافيها، هنا لنستخدم هذه التكتيك: (صندوق العبارات الجاهزة للاستخدام) في هذا النوع من المحادثات تنشغل أدمغتنا بمعالجة مشاعرنا الملتهبة، وأفكارنا العشوائية، ويصعب أن نركز في اختيار كلمات مناسبة، من العبقرية أن نكون قد احتفظنا وحفظنا مجموعة من العبارات الجاهزة للاستخدام دون تفكير كثير، بنفس الطريقة التي حفظنا وتعلمنا الإسعافات الأولية، مجموعة من الإجراءات الجاهزة للطوارئ، سأعطيك اقتراحات مفيدة لكن اضف عليها لمستك الخاصة، من كلماتك الخاصة، من لهجتك، من نبرتك المعتادة، فبذلك سترفع من فرص تذكرك مثل:

عبارات الاحترام: إذا كنت بصدد تقديم ملاحظة أو “عتب” تعرف أن شريكك قد يجرك بعدها نحو محادثة مستفزة، صدّر حديثك بعبارات الاحترام مثل: “لاحظت أنك تعمل باجتهاد، ربما تمر بظروف استثنائية هذه الفترة تؤثر على أدائك العام، نحتاج إلى حضورك الاجتماعات في الموعد المحدد، هذا يساعد الفريق، وسنقدر مساعدتك” ، أو مثل: “ألاحظ أنك تعمل لوقت متأخر، ربما هي طريقتك في الحصول على مساحة خاصة، العائلة تحتاج وجودك، وعلى أنني أحترم حقك في المساحة الخاصة، سيساعدنا جميعا أن تخبرني قبلها، وتشاركني احتياجاتك، هذا أفضل من ترك الأمور للتكهنات”

عبارات مشاركة المسؤولية: مثل: صحيح أنا أتحمل مسؤولية عدم التعبير بصراحة عن احتياجاتي، احتجت وجودك في الاحتفال بترقيتي هذا الخميس، افترضت أن ذلك معروفا عندك، فلا بد أن نتشارك نجاحاتنا.

عبارات التصريح بالنوايا: سواء كنت الطرف المستفَز، أو تتوقع أن الطرف الثاني سيُستفَز، صرّح بنواياك السليمة، فلو اتهمك أحد بأنك عنيد أو “تستعبط” ، بدل من أن تنجر للدفاع، قل شيئا مثل: ممكن أن تكون عباراتي توحي لك بذلك، أعتذر! كنت أقصد التعبير عن محبتي/عتبي/ احترامي/ رأيي ..” تحمل مسؤولية ضبط كلماتك وفق نواياك، لا تتحجج بالنوايا السليمة على سوء التعبير، النوايا لا تهم إذا لم تترجمها الكلمات

قبل قراءة المقال، كنت بطبيعتي أحتفظ بحزمة عبارات جاهزة، لم أتعلم التكتيك هذا لكنني عرفته بالتجربة، وسأغششكم عباراتي:

عبارات الأسئلة: عندما أجد نفسي منجرفة نحو اتهام الطرف المقابل، (أفرمل) وأضع العبارة في صيغة سؤال، بدل: أنت تحاول إهانتي، أقول: هل تحاول إهانتي؟ الاتهام مستفز، أما السؤال فصادم، ذلك يدفعنا جميعا للتوقف والهدوء.

عبارات أنا، وليس أنت: لو سألتني ماهي أسوأ كلمة تقال في المحادثات الخطرة، لن أقول لك الشتائم ولا الإهانات ولا الاتهامات، بل هي كلمة “أنت”، مهما كان ما بعدها، فأنت تلقائيا حفزت الطرف المقابل للدفاع، وخلقت حالة هجوم، بدل: “أنت تقصّر في الاهتمام بعلاقتنا” أقول: “أنا أحب الاهتمام واحتاجه بدرجة أكبر مما نفعل هنا”.

تعقيب النقد باقتراح: لا تتركي عبارات النقد عالقة في الهواء تستجر من كرامة الطرف المقابل، قللي من انكشاف الطرف المقابل بتحويل الضوء نحو اقتراح بناء، مثل: لا تقولي: أشعر أننا لا نتواصل بشكل فعال، وتسكتي، بل عقبي فورا باقتراح: أشعر أننا لا نتواصل بشكل فعال، ما رأيك أن نعتمد وقتا أسبوعيا ثابتا لنا دون مشتتات؟

وأنتم، ماهي عباراتكم؟

المحادثات الخطرة ستحدث رغم كل ما سبق، لكن بزيادة وعينا، وتطوير مهاراتنا التواصلية، ستكون المحادثات الخطرة فرصة لاستثمار الموقف لصالنا. جربوا ولاحظوا الفرق.

هشّ وخائب الأمل: تقنية واحدة للخلاص من عذابات العار

Shame– العار ! ليست بالكلمة التي تودّ التعامل معها، فضلا عن أن تكون شعورا يوميا تكابده، كنساء فلنا حكاية طويلة مع الشعور به، نحن موصومات بالعار كفكرة، كجسد، كسلوك، وكأي احتمال آخر، يكاد يكون العار أكثر شعور يغمسنا المجتمع فيه ببساطة أن تغمس شابورة بالحليب على فطورك! فنعيش حياةً طويلة ونحن واهيات، (نقطرُ) عارا، ولا أود الاسترسال في هذه الملحمة النسائية، لأن الشعور بالعار هو السلاح المجتمعي الذي تستخدمه المجموعات للإقصاء، حتى ضدّ الرجال.

قضيتُ أمس في ماراثون قراءة كتاب في يوم وكان الكتاب: العار – Shame للدكتور جوزيف بيرقو، المعالج والمحلل النفسي لأكثر من ثلاثين عاما، والذي يقدم خلاصة لحكايتنا البشرية مع العار.

الوعي الأليم بالذات:

يتجاوز د. بيرقو جدليات تسمية المشاعر، بل إنه يشجع على أن نستخدم أكثر عدد من المفردات في وصف الشعور بالعار لأن اللغة تساعدنا على وضع الكشّاف على شعور مظلم، نحن عادة نستخدم ألفاظا مخفّفة وأقل وقعا لوصف الشعور بالعار مثلا: شعرت بخيبة الأمل، فشّلتنا! ..إحراج! على أننا في العمق السّحيق في تجربتنا البشرية نكون قد شعرنا بالعار، الذي يرتبط بسلوك الرغبة في التواري والاختفاء والغياب لأن الذات الحاضرة تبدو بلا قيمة وتالفة، ويتجلى عادة في ثلاثة مشاهد:

  1. غير محبوب ومهمل: الشعور بأنك حبك غير متبادل مع الطرف المقابل، مرارة الشعور بالعار هي ما تجعل المتورطين به يخشون الاعتراف بمشاعرهم وأشواقهم، ويبدو التعبير عن الكراهية أسهل وأقل مخاطرة!
  2. مفضوح! : أو ما نعبر عنه تخفيفا (بالإحراج!) كأن تستخدم كلمة بنطق خاطئ، أو تتلقى انتقادا شخصيا في اجتماع، أو ترتبك في مقابلة، فأنت لا تود أن يرى الآخرون هذا الجانب، على أن الشعور بالانفضاح ليس مقصورا بكونه أمام الآخرين، بل قد تكشف لك ذاتك عن جوانب منها لم تكن تدركها أو لا تريد الإقرار بها.
  3. التوقّع الخائب: “العار هو صوت الهوس بالكمال” ، فعندما نتوقع من أنفسنا ألا تخطئ أمام الآخرين، وألا تفتر عن تحقيق أحلامنا المتطايرة في السماء، فنحن بلا شك ننصب شِراكا خطرة لأنفسنا حتى تشعر بالعار عندما تخيب تلك الآمال في دوامة الهوس بالكمال التي تطحن أرواحنا.

الخلاص من عذابات العار:

يا لها من عبارة شاعريّة وتشبه الأغاني!
فنحن ولأعمق نقطة في بشريتنا في ورطة لا مثيل لها للتعامل مع العار باعتباره أحد المشاعر التسعة* التي تبرمجت في جيناتنا، تلقيناها وسنمررها لأجيال عديدة، فعندما نقول (الخلاص) فالمعنى هو التسليم بحتميّة تأثير الشعور بالعار وتقليل وطأة العذابات وجعلها ما أمكن تحت السيطرة أي (الاتّساق العاطفي)، وذلك من خلال تقنية (المرونة، وتوسيع نطاق الهويّة) ، فكيف تعمل هذه التقنية؟

  1. فاضي شويّة؟ إن التعامل مع الشعور المرير بالعار يبدأ من تكوين شبكة دعم من الناس الذي سيستجيبون بتعاطف عندما تشاركهم الموقف الذي أشعرك بالألم والعار، تقدّم للتواصل مع الآخرين عوضا عن أن تجعل الشعور بالعار يعزلك ويفتّت ذاتك وحيدة،
  2. شُدّ حيلك! إن سعيك الدائم لتجنب المخاطرة بالتعرض لمواقف صعبة لا يعني أنك (متحكّم) بل ببساطة يعني أنك تؤجل رحلة التعلّم والتطوير، طوّر تحملك لهذه المشاعر الصعبة باعتبارها حتميّة، ذلك يخفف وقعها عليك.
  3. الشجاعة: تشجّع في إظهار نفسك أمام الآخرين في موقف يُشعرك بالهشاشة، احضر مقابلة وظيفية تعرف أنك ستُرفض فيها، كن المبادر في قول (أحبك) ، صوّري نفسك بدون فلتر، شارك في اجتماع بقول كلمة (لا يوجد لدي أدنى فكرة عن هذا الموضوع).
  4. دمّك عسل: بحدّ مبهر، تعمل الفكاهة على تخفيف وطأة الشعور الأليم بالذات، وقد يستخدم بعض الناس الفكاهة كحيلة دفاعية في المواقف الصعبة (تصريفة)، وليس هذا هو المقصود، فلكي تكون الفكاهة الساخرة على عذاباتك عملية بنّاءة لا هدامة احرص أن تكون مع أشخاص تثق بهم باعتبارها (إدراك للطبيعة المشتركة لتجاربنا الإيجابية والسلبية) وتهدف إلى ربطنا بالأخرين، حينها يكون الضحك سلوكا صحيّا وتحرريا.

وأخيرًا: إن اللجوء للانكار وسائر الدفاعات لتجنب العار صعب التحمل هو أمر شائع وطبيعي، فلا بأس ألا تكون ردة فعلك الأوليّة بنّاءة، لكن ترقّب شعور وحينما تشعر بما يكفي لمواجهة ألمك، قِف واستخدم أيّا من الآليات السابقة.

*بحسب ملاحظات طبيب الأعصاب (سيلفان تومكينر) – Affect Imagery Consciousness.  

معضلة نسيان كتاب عند الخروج لمقهى – تدوينة لمواساة القارئات

كتاب على السرير، كتاب على مقعد الراكب في سيارتك، كتاب في مكتبك الرسمي، كتاب على طاولة الطعام، قراءات متوازية أو قراءة مركزة وكُتب في الفريق الاحتياطي، لكن يبقى بطل الطوارئ هو  ذلك الكتاب منطويا في شنطة اللابتوب تهري أوراقه أسلاك الشاحن، وتلطخ أوراقه تسرّبات الروج الأحمر، وكريم اليدين، ورشاش غير مقصود من عطرك الذي انفكّ غطاؤه ليرفع راية مجاراة تحركاتك، ثم تأتي قطعة الشوكولاتة الداكنة 80% كاكو خالص لتطبع على كعب كتاب الطوارئ  قُبلة مُرّة يستحليها الموقف المزدحم كصدفة خير من ألف ميعاد!

كتاب الطوارئ المنطوي في شنطة اللابتوب مستسلما لدوره الثانوي في تكوين فِكرك فهو غالبا يحمل عناوين خفيفة وربما ساذجة على طريقة: العادات السبع للأشخاص الأكثر نجاحا، محتقنا بغيرته الدفينة من كتب مايا انجلو التي تزاحمه أحيانا وهي في طريقها إلى المكتب، لكنه يسامحك على ذلك ويلوم تطلّعه غير المبرر، فيعود إلى وظيفته المحدودة في ملء أوقات الانتظار لاعبا دورا مجازيا أمام لوحة “الاستغفار” ، فالقراءة – بالمحصّلة – هي استغفار العقل عما يجهل، واستغفار الروح عما تغفل.

في قائمة المقاهي المخصصة لاستكشافات يوم السبت، مقهى أنيق ومساحة عمل مُحفّزة انتظرت طويلا ليصلها دون الاستكشاف، تحركت نحوها بحماسة، شنطة اللابتوب جاهزة، ترحاب العاملين مُريح، الموسيقى مفرودة في مكان الصوت كسجاد تنغرس في أطرافه كاميرات الصحافيين وصيحات المعجبين، لا عجب أن اسمه (زمكان) ، يرمي الباريستا مزحة حُلوة، (توكّلنا) وقائمة الوجبات الخفيفة الخالية إلا من ساندويتشي المفضّل، صدفة رائعة لم احتجها!،  كل شيء مثالي، اخترت مكاني في مواجهة الشمس، رميت مرساة الشاحن في الفيش، اللابتوب جاهز….لحظة … أين كتابي؟!

أعرف أنني خرجت للعمل، لكن رغبةً طارئة بالقراءة لتمهيد المزاج كانت ضرورية، وهذه هي المهمة الوحيدة لكتاب الطوارئ، لكنني لا أجده، ولو كان لكتاب الطوارئ أن ينفّذ انقلابا جريئا وتبديلا حاسما لكل السُّلطات لما وجد فرصة أفضل من هذه وقد فعل.

تذكّرت كل المرات التي قايضته بعلبة مناديل، أو معقّم اليدين، لمعالجة وزن الشنطة في مشوار سريع، المرّات التي سلبته فيها مهارته الطارئة فقط من أجل وزنٍ أخف للشنطة! كم كان ذلك ساذجا وغير مراعٍ لكل الرحلات التي خاضعها معي كتاب الطوارئ دون اختيار: غرف الفنادق، صناديق الأمانات كلّما نسيته في فندق، اتصالات خطوط الطيران (نسيته تحت الكرسي C1 بليز هاتوه!) لم يلعب كتاب الطوارئ دورا بطوليا لكنه ضروري، ككل الأشياء الضرورية التي ننسى تأثيرها الفارق، مثل علامات الترقيم في نص مسترسل.

هذه تدوينة لمواساة القراء والقارئات، اللاتي خضن لحظة العزل هذه، حيث تولى كتاب الطوارئ قيادة الموقف بغيابه، أن تغيب .. ذلك أسلوب بارع في تسجيل موقف مهما كان لئيما! أكتب إليكن لأقول: أشعر بكن، عند العودة إلى المنزل سيتبدّى كتاب الطوارئ ممدا في مكان ما، اقتراحي هو عدم خوض أي حوار، قد يبدو مغريا تذكيره بما قاله البدر (يا طاري الغدران والعمر رشفة) لكن لنتماسك هذه المرّة

الإنتاجية مجرّد مرحلة: المستويات الأربعة للنمو الشخصي

عند تدفّق التغريدات في تويتر ، خطفت اهتمامي هذه التوصية القرائية، ولأن كلمة (الإنتاجية) تشغّل حساسات الإدمان العملي داخلي (التي تخلصت من عبئها إلى حدّ كبير) فقد حفظت المقالة فورا لقراءتها، والتي كانت مادة نقاشية مليئة بالشتائم في لقاء صباحي مع صديقتي نوال، (على غير المتوقع من مقالة تهدف إلى الحب والسلام) ولكننا كنا نجسّد ذلك الغضب المتفجّر من تحت أكوام من إلزاميات الإنتاجية والنجاح، والكثير من الشروط وعبء التعريفات لمعنى لحياة وربط كل ذلك في صفحتك على لكند إن في عالم يتباهى بالإنهاك الوظيفي، عدت إلى المنزل وقررت ترجمة المقال، ليصل إلى شريحة أكبر، ورغم أنني في غنى عن القول أن المقالة تمثّل كاتبها وكاتبها فقط، إلا أن ترجمتها ونشرها يستلزم توضيحا إضافيا أنني لا أوافق بالضرورة على كل تفاصيل المقالة ، لكنني بالتأكيد أشجع على مناقشة محتواها، وفتح حوارات حول الوارد فيها، علما أنني ارتحت أثناء ترجمتها إلى حد التصرف في بعض الصياغات والعنونة بما لا يتعارض مع معنى النص:

المصدر: هنا

كثيرا ما أجد الحياة تعلمني نفس الدرس من خلال عدة  مسارات في حياتي وفي نفس الوقت. كل ما علي فعله هو الاسترخاء وملاحظة ما تحاول الحياة قوله لي،  (وتدوين بعض الملاحظات) ، هذا ما يحدث الآن مع فكرة أن :”كلُّ شيءٍ ..موسميّ!” ، وهي ليست فكرة جديدة بأي حال من الأحوال. فقد جسدتها بعض الأمثال القديمة مثل:  “هذا الوقت -أيضًا- سيمضي”، و “لكلّ شيءٍ أوان”  كما في آية من الانجيل.

ولكن؛ لهذه الفكرة تبعات مهمّة على حياتنا الحديثة. فلقد بدأت أدرك أن مفهوم (الانتاجية الشخصيّة) هو مجرد موسم من مواسم حياة البشر، ومجرد مرحلة مؤقتة نعبرها جميعا في طريقنا نحو أشياء أخرى. (الانتاجية) كما نعرفها هي إلى حدٍ كبير مفهوم مبتدئ، يُلبي احتياجات المبتدئين في حياتهم المهنية، أو الذي انتقلوا إلى دور وظيفيّ  يتطلب حدًا أعلى من الانتاج الشخصيَ.

مرحلة ما بعد الانتاجيّة لدعم حياتك المهنية:

إن السبب في كون (الانتاجيّة) مجرد مرحلة يعود إلى أنها -نسبيا- دعّامة ضعيفة، نقصد بـ(الدعّامة) القدرة على الحصول على المزيد ببذل جهدٍ أقلّ، فإنك عندما تستخدم الدعّامة/الرافعة لرفع صخرة هائلة بينما أنت عاجز عن رفعها بقوّتك المنفردة، ذلك أنك تحتاج إلى الوصول إلى مستوى معيّن من (الكفاءة) في (انتاجيّك الشخصية) التي حالما تصلها ستكون قادرا على تطوير (الدعّامات) القويّة لحياتك من مجرد الاتكاء على (الإنتاجية)، وذلك ما يجب عليك فعله إن أردت أن تحقق المزيد بعملٍ وجهدٍ أقل. فما هي مصادر (الدعم) الأخرى؟ إليك عدةّ خيارات:

1.القدرة على العمل مع الأخرين، وإدارتهم:  وهذه أحد أهم المصادر الهائلة لدعم ورفع حياتك المهنية، سواء من خلال:‌
أ. توظيف الآخرين،
ب. أو التعاون معهم،
ج.أو التعاقد معهم كمصادر خارجية،
د.أو تفويضهم،
هـ. أو تدريبهم،
و. أو الاستثمار فيهم

فإن النتائج التي يحقّقها شخصان فأكثر ستكون دائما أكثر بكثير مما يمكن أن يحققه أكثر الأشخاص انتاجيةً، بمفرده.

2. صناعة المحتوى: وبالمحتوى أقصد: منتج معرفيّ يمكنه أن ينتشر ويؤثر بدون أن يتطلب ذلك تدخّلا مباشرا منك، ينتج المحتوى قوة داعمة لك من خلال خلق (قيمة) باستقلال عن وقت واهتمامك، وليس فقط يمكن توزيع هذا المحتوى في أي مكان في العالم  من خلال الانترنت بل يمكن الوصول إليه من خلال عدد غير محدود من الناس بالتوازي، في أيّ وقت ليلا أو نهارا، ومجانا – تقريبا- . يخطر لي أن كل ما أصنعه من محتوى تدوينة، وتغريدة، وفيديو يوتيوب، وحلقة بودكاست هي مُبشّر صغير ينطلق إلى العالم – نيابة عنّي- مبشرا برسالتي. ما حجم موظفي المبيعات الذي يتطلبه تكرار هذا الوصول؟ بل ما عدد السنوات التي كان عليّ العمل فيها منفردا للوصول إلى – حتى – 1% من كل هؤلاء الناس؟!

3. النمو الشخصي: قد يكون صعبا إدراك هذه النقطة! إن جوهر (الدعامة) يتمحور هو حول طرق مصادر جديدة من القوة، خاصة تلك القوى الخفيّة، غير المقدّرة، أو التي يصعب الوصول إليها، تلك القوة الكامنة في الأشخاص الآخرين، وفي المؤسسات، وفي الثقافة، وفي الفن، وفي المحيط الاجتماعي، وفي المباني، وفي البُنى التحتيّة، وفي المجتمع المدني، ولكن؛ هناك مصدر واحد للقوة متاح لكلَ أحد: القوة الكامنة السّارية من خلال جسم الإنسان، وقلبه، وعقله – ولا أدري مصطلحًا أفضل من- روحه، ولا أعرف كيف أشرح ذلك، ولكن هناك نهر من الطاقة الخالصة تتدفق عبر كل إنسان،  هي تلك التي نستفيدها من خلال اليوغا، والعلاج، والتدوين، والأحلام، والمفرّحات المخدّرة، وغير ذلك من ممارسات التشافي. وإن لم تكن مهتمّا بالميتافيزيقيا (الماورائيات)، اعتبر الأمر أنه طاقة محتملة مخزّنة في جهازك العصبي، ليس مجرد تلك النبضات الكهربائية المنطلقة خلال أعصابك، بل احتمالية وجود ذلك الفعل البشري الكامن في جهازنا العصبي. ولقد صادفت مؤخرا نموذج عمل يسلط الضوء على كيفية الاستفادة من مصدر الطاقة هذا، حدده مايكل بكويث، مؤسس مركز (أغابي) -وهو مركز يحوي مجتمعا عابرا للطوائف (لا منتمي)- ، مقرّه في لوس أنجلوس.

نموذج بكويث لمراحل النمو الأربع:

يصف نموذج بكويث أربع مراحل يعبرها الناس في رحلتهم نحو النمو الشخصي والتمكين:

في المرحلة الأولى: إن الحياة تحدث (لي) ، أي إنني لا أملك أي سيطرة على ما يحدث وأنا تحت رحمة أفعال الآخرين، هذا ما يسمى بـ (عقليّة الضحية) التي يهيمن عليها إلقاء اللوم على الآخرين، والشعور بالخوف، والافتقار إلى السيطرة.

في المرحلة الثانية: إن الحياة تحدث (بواسطتي) ، حيث تبدأ في هذه المرحلة التمكن من الولوج إلى قواك الداخليّة، وتعزز كونك (فاعلا) في حياتك، مسيطرا على أفكارك ومشاعرك، وتوجيه كل ذلك نحو تحقيق أهدافك. تتحمّل مسؤولية حياتك، ومسؤولية إتقان التأثير على الآخرين، والعالم!

الانتقال من المرحلة (الأولى) إلى المرحلة (الثانية) هو انتقال في غاية التأثير، لذلك هو محور معظم أعمالي حتى الآن: منح الناس المهارات والأدوات لتحديد الأهداف، والتخطيط، وجمع المعرفة، والعمل على التنفيذ بفعالية.

المرحلة الثانية، هي المرحلة التي تكون فيها (الانتاجيّة) بازرة، مرحلة حدودك القصوى في أن تفعل ما يجب عليك فعله، إنك شخصيا وقدراتك في عنق الزجاجة، ومع محدودية ما يمكنك تحقيقه بشكل شخصي فإنه سيتوجب عليك أن تشرف بنفسك على سير الأعمال وفق ما خططت. ولكن إلى متى؟! ففي نقطة ما ستصبح هذه المرحلة مُنهِكةً لك، حيث قد حققت مستوىً معينا من النجاح والاستقرار، ولكنك حينها ستتساءل: هل هذا كل شيء؟! ستبدأ في التطلع إلى ما بعد تحقيق المتطلبات اليومية الأساسية، وتحدّق في الأفق البعيد، ستشعر بالجوع لشيء أسمى، شيء أبعد من … نفسك. راسلني أحد طلابي مؤخرا، واصفا ذلك وصفا بديعا، إذ قال:

                        “في مرحلة ما من الحياة، تنظر حولك، وتقنع نفسك بأنك لست عظيما! إذ أنك لم تفعل هذا وذاك مما ادّعيت أنك ستفعله، أو حصلت على فرصة فعله، إنك لست حيثما ظننت أنك ستكون في حياتك.

                        في هذه المرحلة، تتبدّى أمامك عقبة في الطريق، إما أن تستمر في محاولة ملء هذا الفراغ بإحداث تغييرات خارجيّة لا يمكنها أبدا إشباعك، أو أن تنحى بالبحث عن الحلول نحو داخلك. سيتطلبك ذلك التعرّض لصدمة نفسيّة و/أو إنذار صارخ، أو أن تلتقي بشخصٍ يرشدك، لأن تفتح قلبك وبصيرتك للحقيقة.

                        كلّما نظرت إلى أعماقك وتلمّست الخير هناك، كلما اتّصلت وتلمّست الآخرين. أتفهم ..عليك ارتداء قناعك أولا قبل مساعدة الآخرين على متن الطائرة، تلك تعليمات الإنقاذ، لن تتمكن من مساعدة الغير إذا كنتَ .. أنت نفسك.. عاجز عن التنفّس”

الانتقال الذي يشغلني هذه الأيام هو الانتقال من المرحلة (الثانية) إلى المرحلة (الثالثة) ، من (تحدث الأمور بواسطتي) إلى (تحدث الأمور من خلالي) ، باختصار: من (أن أفعل) إلى (أن أكون) وهذا انتقال أصعب بكثير من سابقه، لأنه -ومن عدة نواحٍ- يتطلب نهجًا معاكسا! ففي المرحلة (الثالثة) تترك وهم السيطرة والقوة، تستسلم أمام الحاجة الملحة لإدارة كل شيء، تبدأ في التطور نحو الشعور بأنك بعضٌ من كُلّ أعظم، أنك قناة لعبور قوة، أو إرادة، أو فكرة أسمى تُريد أن تنبثق من خلالك. وتلك تجربة مخيفة! لأن القوة العظمى لا تعبث! إذ توكزك نحو اتجاهات معيّنة، تدفعك وتسحبك نحو الدروب الطيّعة، الأقل مقاومة، فإن استمررت في المقاومة، فإن تلك الوكزات الخفيفة ستتحول -أحيانا- إلى طعنات.

هذا هو التحوّل الذي أكابده الآن، ففي السنة الماضية، أصبحت أبّا ومالك منزل، وصاحب عمل، وفجأة، أصبحت مسؤولية رعاية مجموعة من الناس جاثمة على صدري، عليّ اتخاذ قرارات ستؤثر على مصير الآخرين، ناهيك عن خسارة نصف وقت فراغي، ونصف طاقتي، ونصف ساعات نومي. عليّ الآن أن أتعلم كيف ألتزم بضمان النتيجة حتى عندما لا أكون مسؤولا بشكل مباشر عن تنفيذها، علي أن أتعلم كيف أسمح للآخرين بأن يخطئوا الأخطاء التي لم أكن لأفعلها، حتى يحققوا الإنجازات التي لم أستطعها، لقد تغيّرت الطرق التي كنت من خلالها أضيفُ القيمة، وأتلقى التقدير والاعتراف بها، من طريقة : المحاولة الدؤوبة لأن أكون أذكى شخص في المكان، إلى أن أفعل كل شيء ممكن لئلا أكون ذلك الشخص!

المرحلة الرابعة: لا يوجد لدي خبرة فيها! لكنني سمعت من الآخرين محاولة وصفها، حيث لا تعود الحياة تحدث من (خلالك) ، بل تحدث (بك) ، لأنه لم يعد هناك تمييز بينك وبينها، أفكار الانفصال عن الحياة تفقد قوتها، أنت هي ذاتها، إن سخرية الحياة، ومفارقاتها، وبهجتها، تحدث في مركزها، إذ تأخذ القوة العظمى زمام القيادة في حياتك، حينما تتخلى أنت عن القيادة طواعية.  لقد قيل لي: إن المرحلة (الرابعة) محلّ سرمديّ لامتناهٍ، تشعر فيه أنك متحدٌ مع كل شيء وكل أحد، واحد تذوب فيه هويتك الشخصية، واعتدادك بنفسك، ليس بالتحول إلى العدم، بل إلى الوحدة، كل ديانة وطريقة روحيّة حاولت أن تصف معنى هذا المكان من الفناء والاتحاد في آن، ولكن عجزت كل اللغات عن احتواء  هذا المعنى.

في المرحلتين (الثالثة) و (الرابعة) اللتان تمثلان حدود النمو الشخصي. إذ تحيّد ذكاءك ومنطقك جانبا لتمشي هذا الطريق، فالنهج المعتاد لتحديد الأهداف، والغايات، ومهارة حل المشكلات لن يخدمك، ومحاولاتك لإصلاح وحل التحديات التي تواجهها هنا ستؤخر عبورك إياها فحسب. فالطريق للتقدّم الآن هو: القبول والتجاوز، وحتى تعلّم محبة تلك المقاومة التي تجدها داخلك، لأن كل مشكلة تجدها في خارجك ليست إلا جزءًا فيك لم تتعلم محبته بعد، إن العالم محايد، نحن نصنع المشكلات.

الثمن الذي تدفعه لتكون جزءا من كلٍّ أعظم، هو تخلّيك عن وهم السيطرة عليه، أن تستلم لإرادة الكون (أو الله، أو القدر، أو الانتروبي/المطلق) وتثق بأنك ستجد موطنك فيه.

الإنتاجية مجرّد مرحلة، لكنها أيضا بوابة للتسامي.

سياقات مُنهارة وبديلة: أن تُشتم في تويتر!

كتبت مسوّدة هذه التدوينة قبل 8 شهور تقريبًا، عندما تعرّض أحد أصدقائي إلى هجوم الكتروني مسعور يشكّك بدءًا في صحة اتخاذه لقرار إداري يخصّ مبادرة اجتماعية عظيمة، ثم انضم إلى الهجوم مبدعون خلاّقون، كل منهم اختلق سياقا بديلا يناسب جماهيره التي تسعّر له قيمة إعلاناته أو ما ينتفع به من الآخرين نظير شهرته: الوطنجي: رأى في القرار حربا على الوطن، القومجي: وصف الموقف كاستشراق جديد، وكم هو سهل أن تفتح قائمة (القضايا) وتختار قضية جماهيرية، ودون حتى أن تحتاج إلى (سرديّة) سليمة أو مقنعة، بليغة أو ركيكة، لا يهم، المهم أن تعرف كيف تحرّك غرائز جماهيرك لتهجم معك، ونظرا لتجربتي (الرائعة) الأخيرة، قررت إعادة كتابة هذه التدوينة، ونشرها.

العقد الاجتماعي الالكتروني الجديد: عبيد يأكلون آلهتهم:

تقوم فكرة التفاعل الجماهيري على مواقع التواصل الاجتماعي على فكرة: (مَثَل وأمثولة) وسأحكي لكم الآن قصة (المَثَل): يخلق المستخدم الالكتروني شخصية ذات سياق شخصي مستمر من خلال محتواه وتفاعله الدائم مع متابعيه، إلى أن يجعلهم مقتنعين أنه مثلهم الأعلى الـ: مُضحك/جلاد/ساخر/ناقد/وسيم/أنيق/مثقف.. وغيرها، لا يمكن أن يحتوي المثل على أكثر من صفة عُليا، بمعنى لا يمكن للمَثَل المشهور أن يفصح بحدة عن كافة جوانب شخصيته، ثم يبدأ التأثير بتوجيه المتابعين نحو آراء معينة تخدمه، أو شراء منتجات وخدمات تفيده ماديا،  عليك -وأنت المثل- أن تُرى ضمن السياق الذي كرّسته عند جماهيرك/عبيدك، وإلا سيتحولون إلى أداة قمع مجنونة اسمها (خلّيك) :  خليك في الفاشن/ خليك في الطبخ/ خليك في القيمز .. كما يفعل العُباد بآلهتهم التي إذا جاعوا…. أكلوها.

المَثَل/المشهور/المؤثر: هو أسير جماهيرية مشروطة، مشروطة بأن يبقى داخل الإطار، يستجيب لرغائب أتباعه، يحافظ عليهم بطريقة تبدأ عادلة: يعطيهم كود خصم لمتاجرهم المفضلة، أو سحب على ايفون، أو ينشر تعليقاتهم مما يمنحهم اهتماما جماهيريا دون أن يضطروا لأن يكونوا مشهورين. ثم تنفرط الأمور مع المنافسة غير العادلة وغير المقننة بين المشاهير (مع الشكر لوزارة التجارة على تحديث أنظمتها) إلى أن تصبح طريقة المحافظة على شراهة الجماهير المتمثلة في اللايك وإعادة النشر غير عادلة، نحو: ماذا لو أظهر لهم جزءً من علاقتي بشريكي؟ مقطع رقص مسرّب؟ ماذا لو أفتح الكاميرا وأبكي أمامهم؟ ماذا لو أشتم مشهورا آخرا؟ ماذا لو أتبنى الموقف الذي يحبونه تجاه قضاياي الشخصية؟ وحيث لم يعد كود الخصم كافيا فإن الجماهير الشرهة بحاجة إلى المزيد من الترفيه، ومع إدراك الجماهير قوتهم الشرائية، وقوتهم التفاعلية في تسعير أعمال المشهور وقيمته الاجتماعية، فإننا نشهد انتقال العقد الاجتماعي الالكتروني من كونه غير عادل إلى مجحف بحق المشهور/المؤثر الذي يخسر مسبقا أي تعاطف تجاه استباحة حياته، وخياراته، وحتى استباحته شخصيا بحجة أنك مشهور ويجب أن تتحمل ثمن تعرّضك للجماهير، يردد الناس هذه العبارة دون أن يدركوا وحشيتها، فهي مثل أن تقول: من حقك أن تدفع كل شخص وقف على حافة جبل شاهق لأنه كان يجب عليه أن يتحمل ثمن تعرّضه للحافّة. وهذا جنون. حيث إنه من المفهوم أن المشهور اتخذ قرارا واعيا (لنفترض) بشأن بدء شهرته، أو بشأن استمرارها مقابل انتفاعه من هذه العلاقة الشائكة.، إلا أن ذلك لا يبرر (أن تأكله) الجماهير كلما جاعت.

منيو الجماهير الجائعة … أكثر شراهة

فيما بدأ كطلب جماهيري بسيط من المتابعين لمشهورهم: مجرد أن تبقى في (إطار الـشخصية) وتلبي مجموعة هامشية من التفضيلات: أبو نورة أو طلال؟ نصر أو هلال؟ حجاب أو بلا حجاب؟ نسوية أو ذكورية؟ ، انتهى بقائمة لا نهائية وغير متوقعة من الافتراضات، وشراهة غير متسقة ضمن أيّ سياق، يصبح فجأة مجرد تساؤل عن التخصص العلمي وجبة ضمن منيو الجماهير الجائعة، لنتابع  المثال السابق في مراحله الأربع:

كل ذلك لا يمكن أن يكون عاديا، وطبيعيا، ومقبولا.

المشهور/المَثَل/ المؤثر…العبيط!

وهو: أنا، ومن هم مثلي، مؤثرون الواحد منّا يحاول الخروج باستمرار من كل السياقات، يرفض الإعلانات، ويرفض المشاركات، ويغيّر حساباته باستمرار حتى لا تصيده الجماهيرية حتى في حبها، لكنها تستدلّ عليه في النهاية،يرفض أن يكون له حساب شخصي سرّي! ، حذف مستمر للكلمات المصورة على المسارح، رفض مستمر لتأليه المتابعين وشعاراتهم، أذكر أنني عندما جربت التدريس في الجامعة كان أكثر ما كرهته هو أن تعتبرني طالبة قدوتها، ذلك عبء لا أريده، لكن .. محاولة تطبيق كل ذلك في حساب الكتروني يبدو أنه تصرف اعتباطي وعبثي،كان فعّالا ما قبل الـ2011، لكن ليس اليوم، فالبيئة مفتوحة وخارج سيطرة المستخدم، والجماهير الجوعى تسير كزومبيز بلا قائد سوى رائحة الدم الطازج، ستخلق منك آلهة حتى لو أبيت، حتى لو قاومت، وستفترض منك تبني قضاياها، حتى وإن توافقت مع قضاياك، واتحد إيمانك مع إيمانهم، فإنهم سيجدون مبررا لوجبة عشاء طازجة مثل: أنت لا تؤمن كفاية! لا تتكلم كفاية، حتى صمتك لا يشبه الصمت المثالي! ، حتى وإن تكلمت بشكل إبداعي فإنك متأخرة لثانية.

الأمثولة:

لطالما كانت القصص هي المحرّك للغرائز البشرية البدائية، يخرج الصيّاد من كهفه ليصطاد طريدته؛ لأن قصّة الجوع التي عاشها وحكاها وحُكيت له تُلهمه للخروج كل يوم، تقذف أنثى نفسها في قاع الموت لأن قصّة الأمومة التي حُكيت لها مقنعة إلى ذلك الحدّ، تعود هي لتحكي قصص التخويف والترهيب لأبنائها لأن ذلك يطوّعهم، القصة تجعلك صيّادا ماهرا، وابنا خانعا في ذات الوقت. صناعة المحتوى الالكتروني قائمة على خلق قصة، ولقد اعتدنا أن تكون تلك القصص مروية من قبل “صنّاع المحتوى” نحن دون سوانا لدينا مهارات السرد والحكاية، الكتابة أو التصوير والتحدث، الذي تطوّر أن الشركات التقنّية رفعت من تمكين الجميع من المشاركة في صياغة القصة، وذلك بدا ثوريا ورائعا للغاية، أن تحكي قصّتك دون اشتراط أن تمتلك مهارة محترفة، لكنه انتهى عبثيا تحت صبغة شعبوية مثل: حق التعبير، حق المشاركة، مما جعل الجميع يعتقدون أنهم يملكون الحق في الاعتداء على سرّديتك وروايتك مع الشعور بالاستحقاق العالي لإطلاق غرائزهم الوحشية، من الطبيعي أن تضع صورة لابنك وهو ذاهب لمدرسته، هذه سرديتك وذلك سياقك، يخطفها مستخدم آخر ليعلّق على سوء تربيتك الذي استنتجه من حمل ابنك للآيباد، يخطف ذلك مستخدم آخر ليعلّق على (قُبح) ملامح ابنك الهجينة، هذا يحدث كل يوم، اختطاف القصص، وخلق شهرة خاطفة إثر تعليق عابر، وهذا بالضبط هو الفارق الجوهري الذي جعل التنمّر/الاعتداء على القصص يزدهر! وهو أنك كنت تحتاج إلى خلق شخصية كاملة بسياقها ومحتواها لتحصل على الشهرة والانتباه، الآن ..لا داعٍ لذلك ..ابق مغمورا لكن اكتب تعليقا وقحا ومرحا، ساخرا وجارحا، وستحصل على انتباه هائل وشهرة بحجم كبسولة لكن ستعطيك شعورا بالتفوّق العابر الذي سرعان ما سينطفئ! إدمان هذا الشعور هو الإدمان الجديد. لقد انتقلنا من إدمان تشتت الانتباه، إلى إدمان جلب الانتباه. ولقد أصبح تحويل (المثل) إلى أمثولة ..هو السلوك المفضّل الجديد لأتباع الآلهة، لأن ذلك يعطيهم قبسا من وهج الشهرة والانتباه.

أصحاب القضية لهم حق إحداث الصخب، تلك نيران صديقة

أحد أهم تبريرات الاعتداء على القصص واعتلال السياقات واختلاقها، هو اعتبار أن الأخلاق حالة (رفاهية) لا تتسق مع (اضطرار) صاحب القضية للتعبير، والاستنجاد وإحداث الصخب اللازم لإزعاج (السُّلطات!) ورغم قناعتي أن هذا -غباء- واستغلال إلا أنني أتفهمه في بعض الأحيان حينما يأخذ طابع النيران الصديقة، عندما تشتمني (نسويّة) لأنني كتبت عن تحديث قانونيّ تقدّمي لصالحها، أتفهم الغضب المكبوت واكتفي بالحظر، وسأذهب إلى أبعد من ذلك وأقول: إن بعض الحُمق والحنق والوقاحة مطلوبة، لكن ذلك يجب ألا يساوي: الاعتداء المستهدف، فما الفرق؟

عندما تعلّق بوقاحة عابرة لحساب عابر فذلك اعتداء يمكن تفّهم سياقاته، أما عندما تقتبس التعليق لتستعدي متابعيك، أو تجيش الآخرين في هاشتاق، أو حتى تكتب تعليقا عابرا لكنك مؤثر فإن ذلك يجعل اعتداءك مستهدفا، هذه ليست نيران صديقة هذا اعتداء، ولقد مررت بالمثال الأخير، فأنا لا أشارك في أيّ هاشتاق مستهدف ولا أقتبس لأستعدي، لكنني أرد (منشن) باعتراض وربما اعتداء، لكن حالما ألاحظ أن المتابعين عندي التقطوا المشهد وبدأت لديهم شراهة الحصول على الانتباه عن طريق (التعزيز) لي! ويصبح الطرف الآخر مستهدفا، فإنني على الفور أتوقف، أحذف تعليقي، وأطالب الجميع بالتوقف، أحظر المتابع الذي يعتبر نقدي (جلدا) حتى وإن حاول اللعب في صفي ودعم موقفي، ذلك الدعم لا يلزمني! فمن غير المعقول أن تتخلى كمؤثر – حتى وإن كنت عبيطا مثلي- عن مسؤوليتك، وتعتبر ردك (عادي، وبسيط) عندما تكون عارفا أن متابعيك الشرهين سيمتصّون الدم الطازج الذي أرقته للتو.

دليل إرشادي:

إذا وجدت نفسك في وضع اعتداء على قصّتك، أقترح عليك:

  1. لا تعتذر: ما دمت لا تعتبر حسابك مصدرا لدخلك المادي، فالمتابع ليس عميلك، فلا داعٍ لأن تبحث عن رضاه، فضلا عن أن أي اعتذار -مهما كان صادقا- فلن يكون كافيا لإعادة بناء السياق، لقد انهار سياقك واُستبدِل، تعامل مع الموقف على هذا الأساس.
  2. لا تجادل: إن جدالك للجماهير الجوعى هو حقن بجرعة إضافة لإدمان الانتباه لديهم، وأنا لا أنسى أولئك المستخدمين الذي كانوا يراسلونني في الخاص توسّلا للرد عليهم بشكل عام، لأنني تجاهلتهم وذلك آلمهم، حتى عندما تحظرهم سيراسلونك من حساباتهم الأخرى لتحظرها، فالحظر نوع من الانتباه أيضا، لقد فشلت أمهاتهم في منحهم الأمان الكافي، والانتباه الذي احتاجوا إليه، لذلك أشجع دائما زيارة أخصائي نفسي.
  3. لا تتراجع:  مرة أخرى، محاولة إعادة بناء السياق هي محاولة عبثية، لا تحاول التراجع عما تؤمن به.
  4. إنهم ينسون: #لن_ننسى هي أكثر عبارة متلاعبة، قد تبدو لك الذاكرة الالكترونية مرعبة فهناك نسخ متعددة لقصصك في مساحات لا تملك عليها زر الحذف، ووجود برامج للبحث في الأرشيف، وعدد من الأشخاص الذين يرفعون شعار (لن ننسى) ستستفزّهم هذه الفقرة التي تهدم شعاراتهم، لكن فعليا، وإحصائيا، وتقنيّا.. إنهم ينسون. فالحياة الالكترونية كلها مصممة لأن تنساك عن طريق الغمر، تغمرك محتواك في محتوى آلاف الملايين غيرك الذي تخلطه الخوارزميات في خلاط كبير يتجدد مع كل تحديث للتطبيق، الحياة الالكترونية مبنية على عامل السرعة والانتباه المشتت، والتدفق اللحظي المستمر للمحتوى، بما في ذلك القصة نفسها والاعتداء عليها، فالحياة الفعّالة للتغريدة مثلا بمعدل 20 دقيقة هذا فقط في حال كان نشاطك مستمرا! مالم تُسقطها الخوارزمية، فسيسقطها (التايملاين) بعد أيام، حتى المحتوى المصوّر سيندثر مع الصور المتدفقة، هذا لا يعني أن الاعتداء هيّن وبلا أضرار، فالناس يفقدون وظائفهم وحتى أرواحهم إثره، لكنك إن نجوت من ذلك فغالبا ستؤول الأمور نحو الأهون.
  5. استمرّ  في حكاية قصصك: استمرّ في كونك أنت، ما تريد، ما تحب، استمر في حكاية المزيد من قصصك، بسرديّتك، بسياقك.

شجاعة التخلّي عن الأحلام… استسلم!

عندما يبدو العالم ظريفا:

وأنت طفل بالكاد تنطق حرفي ميم وباء، يواجهك العالم بظرافته: ماما ولا بابا؟ وأنت مُلام إذا انحزت لأيهما فكل الإجابات خاطئة حتى “الاثنين معا”، ذلك قبل أن تعرف ماهو الابتزاز العاطفي.

تحبو، وما أن تمشي خطوتين عرجاوتين، يضعك العالم في ماراثون الوصول إلى حضن والديك: أسرع! يتحديان نموك الطريّ المتمهّل بحشرك في عربية مدارة بعجلات مجنونة..امشِ..أحسن ..أسرع! ذلك قبل أن تعرف ماهو السباق، الفوز، السقوط المشين!

تبصر العالم ملونًا وقبل أن تطوّر أي شعور مفضّل، يفاجئكَ العالم باللون الأزرق، ويفاجئكِ باللون الوردي، يمنحكَ سيارة، يمنحكِ عروسة، عليكَ ألا تبكي كفتاة، عليكِ ألا تتحدثي كصبي.

وما أن تخطَ حرفا وتحمل حقيبة حتى يعود العالم لمواجهتك بشكل أقلّ ظرافة، أكثر صرامة، وكل الأعين تجاهك معبأة بالأحكام، ثم يسألونك: ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر؟ أنت هنا ..محاصرا في منافسة لم تخترها، تحاول أن تجيب أي إجابة تجعلهم يقبلونك، يقبلون لونك وانحيازك ومفهومك الخاص عن الفوز … لكنك تتوقف برهة لتغشّ الإجابة مما كانت أمك تدعو لك به أمامك: أن تكون إماما أو طبيبا أو طيارا، أما أنتِ .. فـ “الله يستر عليها”

تكبر منفصلا عن ذاتك التي لم تتعلم كيف تتصلّ بها، أو تصغي إليها، تدخل في ميدان البالغين فيخبرك العالم مجددا: ماهذا التأخير؟ لا عربات بعجلات مجنونة تنقذك فتغوص في المقارنة واللوم، يسألونك: أين شغفك؟! ، يدفعونك نحو الناصيّة بأحلام مستعارة لتقاتل. تقاتل ببسالة على ناصيةٍ لا تعرفها، من أجل حلمٍ توهمّت أنك اخترته! إن فزت فلا الفوز فوزك، وإن خسرت فما أقلّكَ!

العالم، ليس ظريفا كما ظننت:

إننا جميعا نرتبط بالسياق السابق، اللعبة الأكثر شيوعا في هذه الحياة، نبتلع أحلام مزيفة من أجل الحصول على حاجاتنا البدائية: الحبّ الصرف، القبول، والتقدير، إن ما يحدث لنا في طفولتنا وإن بدا بسيطا وهامشيا وظريفا لكنه في الواقع يعيد تشكيل وتزييف حقيقتنا، قد نقضي عمرا مؤمنين بقضايا نظن أننا نتبناها، ونقاتل عن أحلام نظن أنها خرجت من قلوبنا وخيالنا، لكن لو توقفنا لنسأل أنفسنا عوضا عن الاكتفاء بالإجابة عن أسئلة العالم، لربما عرفنا أكثر.. من نحن حقا؟ وما هي أحلامنا.

إن هذا التوقف، فالسؤال، فقبول الإجابة، ليس سهلا، فأنت هنا تواجه تاريخا من الأفكار والمشاعر المعقدة، وأيضا تواجه توقعات العائلة، وما أحبّك لأجله رفاقك، تواجه نفسك فوق كل ذلك، لذلك تحتاج – وربما لأول مرة في حياتك – إلى الشجاعة حقا.

شجاعة التخلّي:

في عالم يطالبك دوما بالتمسّك بأحلامك، يحفّك بجنون اللامستحيل، ومسرحيات قتال النواصي، وصور (قبل/بعد) ، وطوفان قصص الناجحين الذين تمسّكوا بأحلامهم .. أقول لك: استسلم!

إن الاستسلام يتطلب شجاعة لا تقل عن التمسّك، شجاعة أن تكتشف نفسك وما تريد، ما يرضيك، ما يحقق لك المحبة والقبول والتقدير، بغض النظر عما قدمه لك العالم من قصص ومتطلبات، بغض النظر عن دعاء والدتك، ودعم والدك، أن تكتشف نفسك الحقيقية بين كل هذه السلاسل الوهمية المستعارة عن صورتك، وتتخلى عنها، يتطلب شجاعة.

شجاعة أن تقبل التيه، شجاعة أن تقبل أنك لا تعرف ما تريد، شجاعة أن تحب كونك بلا أحلام مستعارة دون أن تفقد تقديرك لنفسك.

للقلق وجوه عدة كلها مريعة..صدّقني!

الأرض:

لقد قضيت عمرا أطول داخل رأسي وأفكاري من الذي قضيته خارجه، وإذا سألتني لماذا؟ سأقول: لطالما كان رأسي مملوءًا بالعجائب، أفكارا وقصص وسلاسل موسمية من الأحداث، حتى أنني أحيانا أستعير أبطال قصة اخترعتها للعمل كضيوف شرف في القصة الجديدة دون أن يرتبك أيٌّ منهم بسبب هذا الإقحام غير المبرر بالضرورة، وأحيانا أخرى يبدو الأمر احتفاليا كدخول (براد بت) في الحلقة 8 من الموسم 8 لمسلسل فريندز، هكذا فقط لإضفاء البهجة والاحتفاء ببطل وسيم للغاية (أيّامها) ومضحك أيضا، الوسامة والمرح هذه خلطة الأحلام!  وهذا مجرد مثال تقريبيّ فالأحداث داخل رأسي أكثر إثارة، وبما أنه لا يوجد لديكم مصدر غيري للتأكد، فعليكم شحذ مخيّلتكم لتصديقي أو لمجاراتي

البذرة:

إن هذا الخيال المتّقد والأفكار المتناسلة بلا حد، في حدّهما الأقصى يستدعيان زخما مشاعريا ضروريا لمجاراة الأحداث، في طفولتي كنت أستلقي قبل النوم وأسرد القصص في رأسي، وكنت في مرات كثيرة أضحك حتى تدمع عيناي، أو ربما أبكي لأن أحداث القصة فاجأتني حينما فلت منّي التحكم بالسرد وبدأ يسقط على أحداث واقعية تجرّها مخيلتي نحو الحواف لأن شعوري حينها كان متطلبا للإثارة السريعة فكان الاقتباس من الواقع حدثا فنّيا ضروريا، وهكذا أكون وقصتي شيئا متوحدا واحدا، ولا أعود الطرف المتحكم فيها، كانت هذه هي اللحظة التي بدأت فيها استخدام مخيلتي في إعادة صياغة واقعي، وبدأت الأمور في الخروج عن السيطرة.

السُّقيا:

ما الذي تحتاجه بذور القلق لتبرعم وتنمو وتزهر؟ أرض خصبة كرأسي، وأفكارا إبداعية كخيالي، ومشاعر مستثارة ومتحفزة على الدوام كمشاعري، لقد التقيت بالقلق مبكرا، ودون أن يعرّف أحدنا بنفسه بدونا جاهزين لقطع الطريق معا… وقطعناه طريقا طويلا وعسيرا، ترافقنا بمحبة يملأوها الارتياب، وتقاتلنا بشراسة، وفي كل المرات التي تعاركنا فيها كانت هزائمي أكثر، كان رأسي بارعا في تضليلي، واقتيادي… ولأنه (مملوء بالعجائب) فكنت أسير في هذه الوندرلاند مشدوهة يقودني الفضول ولاأود الخروج منها، فالواقع أيضا لم يكن مثيرا كفاية لجذب انتباهي، وفي مرات كثيرة وجدت نفسي عالقة في المنتصف لست في أرض العجائب ولا في الواقع، وهذا وجه ثانٍ للقلق. أن تعلق.

الشّمس/الظل:

طول العهد في الطريق الذي قطعناه معا، القلق وأنا، جعل حدودنا متماهية، كما هي ميانة الأصدقاء ونباهة الأعداء، في مرات كثيرة يتدخل القلق في مساحتي الشخصية، يستخدم فرشاة أسناني، يرتدي معطفي الشتوي، يتسلل في خصل شعري، ولا أجد الحق لأن أردعه، فنحن صديقان! وفي نفس الوقت أجدني أغترب عن نفسي، فالقلق لا يترك أشيائي كما كانت، تتغير رائحة معطفي، تُفرم أسنان فرشاتي، يتجعد شعري أو ينساب فجأة .. لا شيء يشبهني بعد أن يعبره القلق، هذا الوجه يحمل ملامحي لكنها ليس تعبيراتي، نعم هي أقدامي لكنها ليست مشيتي، تلك قامتي لكنه ليس طولي، ملابسي لكنها ليست رائحتي، وهذا وجه ثالث للقلق، أن تغترب عن نفسك.

الجذع:

المخيلة تقوم بشكل أساسي على المبالغة، هذا ما يجعل الفنون ساحرة، كل الأمور بمقاساتها العادية معتادة، ما يجعلك تدفع تذكرة سينما لمشاهدة فيلم، أو قراءة رواية أو الطرب لقصيدة أو الرقص مع الأغنية هو قدرة الفنان على اللعب بالمقاسات العادية بدرجة مقنعة لك، تعيش الأغنية بحب مضاعف، والرواية بتشويق متسارع، ذلك سحر المخيلة، القلق يتغذى على المبالغة، وكثيرا ما كان قلقي منتجا فنّيا يستحق الترويج يليق بصالة سينما، ويضيق جدا جدا في صالة الواقع، فإشكالية القلق عندما يبالغ في قراءة وتحليل الواقع أنك في آخر اليوم لن تبيع تذكرة لمشاهدة هذا الحدث الفني، بل ستسقط مهدودا على فراشك، تتسارع نبضات قلبك، ويضيق صدرك ولا ينطلق لسانك، وهذا وجه رابع لقلق، أن تختنق بضخامة الفكرة، ومبالغة الشعور.

الثمرة:

لقد بدأت كتابة هذه التدوينة كمحاولة تفريغ لموجات القلق التي تتردد علي هذه الأيام، وأجدني راغبة للعودة لاستكمال  واستكشاف بقية الوجوه، أودّ حقك أن أربت على كتفك إذا كنت تشعر بالقلق أو شعرت به يوما، ليس للمواساة ولكن لأننا – بطريقة ما- أصدقاء.

سوالف كارنتينا: 2- كارثة اليوم رقم (50)

المكان هنا مزدحم، خلاف ما توحي به الصورة، انتظرت لفترة حتى أسمح للخلفية بأن تبدو أقل ازدحاما، فتحت هذه التدوينة لأكتب عن موضوع محدد، لكن مزاجي كان أنسب للحديث عن حالة الوقوع في فخ اليوم رقم (50) في الكارنتيا ثم الانعتاق من حالة الـ (#خليك_في_البيت) التي عمّت العالم، الحركة الدائمة في هذا الكافيه البهيج، الوجوه المتغيرة باستمرار، الاثنان الجالسان جواري المتحدثان بلهجة جداوية تتدفق في هذه الصحراء كهدير موج الساحل الغربي ونسائمه، الفتيات يستغللن لائحة الذوق العام بالتخلّص من العباية بأناقة لا تبدو عفوية ولا متّسقة مع السياق، لكنها جذابة وبهيجة وتدفع الأدرينالين كما تفعل الحبكة المباغِتة Plot Twist في الموسم الثامن من مسلسل طويل ومرهق. لا يمكن أن يكون المشهد أمامي (سعوديّا) أكثر من ذلك، هذه هي الحياة العامة بعد الحادي والعشرين من جون 2020م بعد رفع إجراءات الحظر في السعودية، مع الحفاظ على الاحترازات الصحية العامة.

اليوم رقم (50)

منذ بدء الحظر وتصاعد إجراءات -الحبس-، خسرت فيه رحلة إلى أثنيا، وأخرى إلى نيوريوك (عسى ألا تلحقها الثالثة في ديسمبر) وكل ذلك كان مفهومها ومحتملا، كانت عائلتي تكرر الإطمئنان، يسألني الأصدقاء بتشديد السؤال: “منال، كيفك؟” وأجيب دون تفكير مطوّل: “حلاوة! لا مشكلة على الإطلاق” عاد أصدقائي إلى عوائلهم ولأسباب عديدة لم أستطع، لكن عقلي مقتنع بما يحدث، ومادام عقلي مقتنع، فمسألة الشعور مقدور على معالجتها. هذه هي طريقتي في التكيّف: ما دمت أفعل الصواب، فعلى مشاعري أن تلحق بي! عليها ألا تتضجر، ألا تعترض، وحتى لا تحزن. أنا ماهرة في إدارة مزاجي، قصصت شعري وأحببت للغاية كيف بدا كإطار مذهّب عتّق صورتي، لكن شيئا ما… كان ينمو داخلي طيلة هذه الأيام، ويتضخم كمارد، ذلك هو الاكتئاب.

فجأة، كل شيء أخذ في الانهيار سريعا، حتى صحتي، قرر جسدي أن يرسل لي إنذارا شديد اللهجة، 10 أيام متواصلة من الإفراغ المستمر لكل ما يدخل جوفي، غثيان من حتى من طعم الماء، صداع يضرب رأسي بشكل مباغت، كنت أقاوم ببسالة غير ضرورية، كل يوم أقول ..سينتهي كل شيء وسأعود بخير، يأتي اليوم التالي ويبدأ كل شيء من جديد وبقوة البدايات، لقد احترمت جسدي كثيرا على إعلانه حالة الطوارئ وهزيمتي، يتصل أخي، أغلق السماعة وأغرق في بكاء طويل لا أتبيّن سببه، تتصل أمي فأبكي، يتصل أبي فأبكي، يتصل أصدقائي فأبكي، أنتاقش مع مديري بين جملة وأخرى (Mute) وأبكي! …. لقد خرج كل شيء عن السيطرة، وصورتي تجاه نفسي أخذت تتضح أكثر، عليّ أن أتوقف، وأصغي لمشاعري بدلا عن إدخالها في مارثوان غير عادل لتلحق بي!

تصحيح المسار

أنا – بطبعي- أنزع إلى موارد البهجة، أضحك بدون بروتوكول اجتماعي، فائقة الحماسة للحياة والخروج وممارسة الأنشطة الجسدية، كبح كل ذلك لخمسين يوما متواصلا كان يعني فقط أنني قادرة جدا على إدارة المهام تحت الضغط (تلك الجملة التي نكتبها في السيرة الذاتية ولا نقصدها) لكنه لفت نظري إلى أنني أفقد الاتصال بداخلي عندما أتطرف في الاتصال بالمهام الخارجية، لذلك أول خطوة تصحيحة اتخذتها هي: حجز موعد في المستشفى، وأخذ إجارة من العمل. ولا أعطي نفسي نيشان الخطوة الأولى فأنا أخذتها تحت ضغط الصديقة الجميلة، نخب الأصدقاء الذين يأخذونك إلى الطوارئ رغم تكاسلك.

لم أرغب في تصحيح مسار معالجتي لهذه الأوضاع، بل تغييره بالكامل، لقد نظرت إلى كتاب (السماح بالرحيل) على طاولتي وتذكرت أنني لم أكمله، لكنني لم أجرؤ على مواجهته قبل مرور أسبوعين من كارثة اليوم رقم (50)

لا شيء طبيعي لأعود إليه

منحت نفسي أولوية مستحقة، ليس في التعامل معها، بل في مجرد (الإصغاء)، بدا سوء الفهم ممتدا بيني وبين نفسي حتى بعد قرار الإصغاء فلم أكن أعرف مالذي أحتاجه بالضبط، جربت عددا من الحيل (هنا) بدون جدوى حقيقية، فحيل المزاج الرديء يوم سبت، ليست هي التي يفهمها الاكتئاب، كانت الأمور مشوّشة داخلي والأصوات متداخلة دون أن يعلوها صوت واحد واضح، لذلك قررت تجربة شيء جديد، فكرة جديدة، منهج جديد، وكانت طريقتي هي: البحث عن فكرة لا أؤمن بها. وأصغي إليها، مادامت نفسي توقفت – احتجاجا على الإهمال المستمر – عن التواصل معي بوضوح، فأنا أحترم الموقف الثوري هذا، ومادامت (خربانة خربانة!) فسأسمح لأفكار ومشاعر غريبة علي أن تدخل ولتحترق بابل أو ربما فلتُزهر، بعيدا عن المجاز؛ فالحقيقة أن هذه مهارة أحبها: عندما تعجز عن التواصل مع نفسك، استفزّ جانبها النقدي، ادخل عليها أفكارا مغايرة. ذلك يناسب عقلي التحليلي الناقد، كان علي أن أنهكه أو أطلق عليه رصاصة رحمة، لتبدأ الأمور من جديد وبهدوء وعلى صفحة بيضاء. و”كم كان سعيدا حظي حين عثرت يا عمري عليك” أقصد تلك الفكرة التي استفزت كل تفكيري. لقد أغرقت عقلي في عشرات الساعات من المقاطع على يوتيوب ومنصات أخرى يقدم فيها مؤمنو تلك الفكرة وسفراؤها شروحاتهم وحججهم وتجاربهم، وددت لو أشاركها هنا لكن سياق التدوينة لا يناسبها.

العيش مستقلا (2) : على مودك أنت وبس!

كل شيء سيبقى كما تتركه

خبر جيّد وسيء في نفس الوقت، من أهم الأمور الأساسية التي يجب أن تكون مستعدا لها، أن جميع تنظيماتك ستبقى كما هي، المواعيد التي تعقدها مع شركات توصيل الأثاث، أجهزة المطبخ الناقصة، شعورك بلسعة البرد عندما تضع قدمك على الأرض سيبقى مستمرا مالم تقم بشراء سجّاد أنيق أو شرّاب سادة كحل أسرع، التذمر من الأغبرة الممدودة على الأسطح الزجاجية، ستتراكم ما لم تمسحها أو تستأجر خدمة منزلية للتنظيف، كل شيء يبقى (على حطّة إيدك) وهذا امتياز لعدم المشاركة حيث لن تدخل يوما وترى ترتيب الأثاث متغيرا بشكل يعكّر عليك (وزنية) الجلسة المقابلة للشاشة.

اختياراتك وفق معدل الصيانة الأقل

من الأمور التي ألتزم بها كمعامل مؤثر في الجودة المرتفعة لحياتي، هي مراعاة (معدل الصيانة) ، وهذا من أهم الأمور التي أتخذ وفقها قرارات الشراء، من البدهي أن تشتري الأجهزة الاستهلاكية بجودة أعلى، لكن هل فكّرت في الأمور التكرارية التي تتطلب منك عمليات شراء متكررة؟ منذ فبراير بدأت باستبدال كافة المناديل الورقية في مسكني بالمناشف المنوعة، ببساطة لأن مشاوير شراء المناديل متكررة ولا أريد لذهني أن يقلق بشأن توفّرها، قمت أيضا بشراء مناشف تجفيف يدوية للضيوف وقسّمتها بحيث أنك كزائر لن تتشارك منشفة تجفيف اليدين مع زائر آخر. طلبت فلترا لتحلية مياه الحنفية لأن مشاوير شراء علب الماء متكررة وهذا لا يزعجني لكنه في نفس الوقت يهدر طاقتي، أحاول دائما خفض معدل الصيانة في حياتي لتوفير مزيد من الصفاء الذهني، والطاقة، ذلك يشمل معدل صيانة العلاقات أيضا

تكلفة أعلى ، سماء أعلى..

نختلف أنا وأصدقائي كثيرا في هذه النقطة، أنا أضع (جودة الحياة) أولويّة في جميع قراراتي، حتى الأشخاص الذي أقرّبهم يهمني أن يتماشوا – على الأقل- مع جودة حياتي ولا يؤثروا سلبيا عليها ولست أطلب من أحد أن يضيف عليها إيجابيا لأن هذه مهمتي التي أتمتّع بانجازها، أي مهمة تحسين جودة الحياة اليومية، فعندما أقيّم تسعيرة السكن أو السيارة أو حتى قطع الأثاث، أضع تأثير هذا المنتج أو هذا الخيار على جودة حياتي كمعيار معتبر، سأختار سكنا بمساحة مضاعفة لما يكفي لشخص واحد خلاف جميع التوصيات؛ لأنني ببساطة أحب المكان (الشّرح!)، أختار حيّا سكنيا في مكان استراتيجيّ لاكتشاف المدينة لأنني ببساطة أحبّ التنقّل والاكتشاف. سأفعل كل ما يتطلبه الأمر من تكاليف إذا كان ذلك سيجعل يومي يسير بجودة عالية، عندما تغادر العشّ أنت لا تريد صناعة عشّ آخر! بل خلق سماوات ممتدة للتحليق، وهذا بالضبط هو تعريف جودة الحياة: الامتداد السماوي لأجنحتك.

المرء بإخوانه: قدّم المساعدة، اقبلها، اطلبها

لن أتكلم في هذه النقطة كخبير، فأنا أكثر الأشخاص حساسيّة فيما يتعلق بطلب المساعدة، أذكر أن والدي ظل يذكرني (يا بنتي أنا أبوكِ!) عندما كنت أقاوم تلقّي المساعدة في مراهقتي، ورغم أنني متصالحة مع جنوحي نحو الاكتفاء الذاتي، لكنني مرّنت نفسي على قبول المساعدة، ثم على طلبها، وكل ما أريد أن أقوله لكم هنا: صدّقوني الأمر رائع جدا!

لا بأس من أن تطلب من أصدقائك أن يستلموا شحناتك حتى وإن كلفهم ذلك إلغاء مشوار ما، أو أن تطلب من الجيّدين في (المكاسرة) أن يحصلوا لك على سعر أفضل، أو أن يحضروا سلالمهم ويركبون لك الستائر، أنا سعيدة بالصورة التي تحفل بها ذاكرتي لأصدقائي (أحدهم أخي) وهم معلّقون في السقف لتجديد اللمبات، أو لإصلاح أُكرة الباب التي كسرت فيها مفتاحي، أو حتى للمرة التي لم أجد فيها سيارتي في الموقف لأنهم أخذوها للصيانة. لقد فاتني كيف أن هذه المساعدات تخلق شرائط أفلام تدور في الذاكرة وتبقى حميميتها وقودا للأيام الباردة، وتخلق أحاديث جانبية مصيرية، أذكر أنني وأصدقائي اتخذنا عدة قرارات ونحن ندردش مجتمعين حول إصلاح (غسالة). هنا أمرا واضح جدا: كل مشكلة لها تطبيق الكتروني، هذا معروف، لكن جرّب بين مرة وأخرى أن تطلب المساعدة الأخوية.

منوتي ليتك معي

لا أريد أن أختم تدوينة الاستقلال دون التعليق على أكثر (تنبيه) وصلني، ماذا عن الأوقات التي نشعر فيها بالوحدة؟ حتى في حال فككنا الارتباط بين الاستقلال والوحدة، فإن شعور الوحدة يظل مهيبا عندما لا يكون هناك أحد جوارك. وإجابتي بسيطة جدا: الأمر لا يختلف أبدا عن وجودك في غرفتك (وحيدا) وعائلتك (تتهاوش) في غرفة المعيشة، عندما تشعر بالوحدة حينها هل ستخرج إليهم؟ غالبا ستضاعف عزلتك لأن الاختلاط بالآخرين في الوقت غير المناسب سيزيد من شعورك بالوحدة لأنك غير قادر على التواصل، هذا ما تفعله الوحدة، تجعلك عاجزا عن التواصل. عليك أن تفهم (شكل) الوحدة، الوحدة هي شعور انفصال، لا أنت تريد أن تتواصل معهم ولا الآخرين بالنباهة الكافية (أو ليسوا ملزمين مثلا؟) بأن يبادروا بالتواصل معك. هذا الشعور يمكنك أن تواجهه في أكثر الظروف ازدحاما، أقول دائما: للوحدة أشكال متعددة، وحلّ واحد، دعها تمضي.